تصدعات وانقسامات داخل الأحزاب الساسية تهدد الأغلبية الحكومية بالسقوط

أفرز فوز محمد الشيخ بيد الله برئاسة مجلس المستشارين تداعيات عدة في الساحة السياسية، من بينها تكريس حالة الانقسام التي يعيشها حزب التجمع الوطني للأحرار، بعد أن سقط مرشحه، المعطي بنقدور، في السباق نحو الرئاسة، ما أشعل مزيداً من الخلافات في صفوف الحزب، حول معنى الاستمرار في العمل من داخل الحكومة، في الوقت الذي خذلت فيه الأغلبية الحكومية مرشحها، وصوت بعض المستشارين المحسوبين على أحزاب الأغلبية، إلى بيد الله، في إطار التوازنات التي أرادت أن تجعل الغرفة التشريعية الثانية بيد حزب معارض، وتحت إدارة شخصية صحراوية بارزة، لعبت دوراً مهماً في ملف الصحراء.
لكن ما هي المرامي الأبعد لهذا التصويت، الذي اتخذ منحى مغايراً لمنطق الغالبية الحكومية؟ هل يراد تمرير رسالة ما إلى شيوخ وأعيان الصحراء؟ وهل معناه أن إشراك الصحراويين من أعلى مستوى في التدبير السياسي، كخطوة تمهيدية، نحو التطبيق العملي لمقترح الحكم الذاتي الذي تقدم به المغرب إلى الأمم المتحدة؟ وماذا يمكن أن تجني هذه الخطوة سياسيا بالنسبة لحزب وليد، هو حزب الأصالة والمعاصرة، الذي يوجد على رأسه محمد الشيخ بيد الله، والذي أصبح منذ الآن يزاوج بين مسؤوليته السياسية، ومسؤوليته في إدارة دفة مؤسسة تشريعية، هي من مميزات النظام السياسي في المغرب.
لقد بدا منذ الوهلة الأولى أن دخول المعطي بنقدور وتقديمه ترشيحه هو مجرد مشاركة في تنشيط عملية محسوم في أمرها، لأن مسار اللعبة الانتخابية والسياسية يتجاوز قدراته، حتى بوجود أغلبية عددية حكومية. وهذا ما أكدته أشواط التنافس الانتخابي التي مرت في ظروف، ديمقراطية كاملة، بدأت بدور أول، ثم بدور ثان فاصل، لتنهي اللعبة بخروج المنافس “الكومبارس” وبقاء بيد الله، كاختيار لمرحلة قادمة، تجسد حسابات المغرب السياسية، التي بدأت منذ عقدين بإقرار مبدأ الجهوية، وتتوج، اليوم، بوصول مغربي من أصول صحراوية إلى سدة أعلى مؤسسة تشريعية.
كما أنها رسالة إلى الخارج، وبالأخص إلى جبهة البوليساريو التي تدعي أن المغرب يضيق على الصحراويين، ولا يتيح لهم التمركز في المواقع القيادية. ولذلك يعتبر وجود رئيس حزب ورجل من عيار بيد الله محمد الشيخ على رأس الغرفة التشريعية الثانية، إفحاماً لهؤلاء المنتقدين ودعوة إلى صحراويي الداخل والخارج لتلقي الرسالة جيدا وقراءتها في مختلف تجلياتها ورمزياتها السياسية.
تولي بيد الله لرئاسة مجلس المستشارين يخلق وضعاً جديداً، لا يشبه في شئ تولي جلال السعيد للموقع نفسه في التسعينات من القرن الماضي، وهو من المعارضة أيضاً، يجعل حكومة عباس الفاسي تفكر ألف مرة في حاجز يصعب القفز عليه دون مخافة السقوط، حتى وإن كانت هناك تطمينات بعدم إقدام الأصالة والمعاصرة على اللجوء إلى ملتمس للرقابة، لأن الأغلبية التي تشكلت حول الرئيس الجديد يمكن أن تفرض على الحكومة إرادتها في ميدان التشريع أو في ميدان المراقبة من دون أن يتأتى للحكومة تعبئة من ينقدها.
التجمع أزمة مركبة
ليست أزمة التجمع الوطني للأحرار، أزمة جديدة، بل هي وليدة حكومة عباس الفاسي، لما تم فرض عدد من المستوزرين على قيادة الحزب عنوة، ممن ليس لهم ماض سياسي في الحزب، ولا تربطهم علاقة تنظيمية به، وهو ما أثار موجة سخط في الوسط التنظيمي للتجمع، خبت بعد ذلك نتيجة التوافقات التي حصلت، والتي أدت إلى بروز تيارين سياسيين، الأول يقوده مصطفى المنصوري، والثاني يقوده وزير المالية الحالي صلاح الدين مزوار.
وهكذا بدأ التأسيس لبروز فريقين متصارعين حول من يظفر بحزب عمره واحد وثلاثون عاماً.
ويدافع الفريق الأول، الذي يتكون من المنصوري، وأوجار، والمعطي بنقدور، ومحمد عبو، عن تصورات رئيس الحزب، باعتبارهم “مناضلين مؤسسين، بينما الفريق الثاني وزراء صبغوا بلون الأحرار”، في حين، يقود الفريق الثاني أو “فريق الوزراء”، صلاح الدين مزوار، مساندا ببعض الوزراء، مثل محمد بوسعيد، وعزيز أخنوش، وأمينة بنخضرة.
وجاءت انتخابات رئيس مجلس المستشارين كي تزيد الطين بلة، ففي تطور مفاجئ، انقلب القيادي التجمعي، محمد أوجار، على رفاقه في ما عرف ب”التيار التصحيحي” داخل حزب التجمع الوطني للأحرار، بزعامة الوزير صلاح الدين مزوار، معلناً التحاقه بصف رئيس الحزب، مصطفى المنصوري الذي خرج عن صمته، بإعلان نية الحزب طرد من وصفهم ب”غير المنضبطين” لمقررات الحزب.
وتشير المعطيات إلى أن تهديد المنصوري بالخروج من الحكومة، جاء ضدا على تشبث “فريق مزوار” بكراسي الوزارات، وسعياً إلى كسب المزيد من تعاطف القواعد مع القيادة، عبر الثأر لخيانة الأغلبية لبنقدور في انتخابات رئاسة مجلس المستشارين. وتشير المعطيات إلى أن قيادة الأحرار جادة في الاحتكام إلى المجلس الوطني للحزب في أمر الخروج من الحكومة، الذي سيحمل معه لا محالة الجديد، ويعد بمفاجآت أولاها، إقدام مصطفى المنصوري على نفي اعتزام الحزب الخروج من الحكومة.
واعتبر أن الأمر لا يتعدى كونه شائعات انسحاب محتمل للحزب من الحكومة، التي يتحمل فيها حزبه عدة حقائب وزارية من أهمها حقائب وزارة المالية ووزارة الطاقة والمعادن ووزارة الفلاحة ووزارة الشبيبة والرياضة. ووصف هذه الشائعات، التي تزامنت مع انتخاب رئيس مجلس المستشارين، هي ردة فعل لعدد من مناضلي ومناضلات التجمع الوطني للأحرار الذين لم يتقبلوا فشل مرشحهم المعطي بنقدور الذي هو من الأغلبية الحكومية في انتخابات الغرفة الثانية،علما أنه مساند من قبل هذه الأخيرة. وهاجم طريقة انتخاب رئيس مجلس المستشارين، ورأى فيها أمراً غير صحي لا بالنسبة للأغلبية ولا للديمقراطية، مشيراً إلى أن المجلس الوطني هو الهيئة الحزبية الوحيدة، التي لها حق اتخاذ قرار من هذا الحجم، معيداً الالتزام بمقتضيات التضامن الحكومي.
مساومة أم اختيار؟
تقدم اتحاديون مناهضون لمشاركة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في الحكومة بوثيقة، “ملتمس الانسحاب من الحكومة”، أشرف على صياغتها علي بوعبيد عضو المكتب السياسي نجل الزعيم الاتحادي الراحل عبدالرحيم بوعبيد.
ومن المنتظر أن يعمد أصحاب دعوة الانسحاب من الحكومة إلى طرح وثيقتهم في المجلس الوطني القادم للحزب، حتى وإن كانت الفرص المتاحة أمام هذه الوثيقة للمرور إلى جدول أعمال المجلس، ضئيلة، بالنظر إلى التوجه العام للحزب، الذي يرى في استمرار حزب القوات الشعبية داخل الحكومة، خيار يمكن التراجع عنه في الوقت الراهن، بالنظر إلى السياق العام الذي يمر منه المغرب، كما ألمح على ذلك عبدالواحد الراضي في تصريحات صحافية، ركز فيها على أن مصلحة المغرب فوق كل اعتبار.
وطالب المناهضون لمشاركة الاتحاد في الحكومة من المكتب السياسي عرض ملتمس الانسحاب من الحكومة على برلمان الحزب (المجلس الوطني)، من أجل “مناقشته وعرضه للتصويت السري”.
ودعا المناهضون لمشاركة الاتحاد في الحكومة، المكتب السياسي “الالتزام بتوصيات البيان السياسي للمؤتمر الثامن للاتحاد”، و”تقويم الأوضاع التي آل إليها الحزب، بإقرار الاختيار الصحيح والتصحيحي لنهج سار عليه الحزب مخالف للتعاقد السياسي، الذي جرى الاتفاق عليه خلال المؤتمر الأخير”.
وأكد دعاة المعارضة بحزب الاتحاد الاشتراكي أن “بيان المؤتمر الثامن يجب التعامل معه اليوم ليس كوثيقة، أملتها ظروف سياسية، لكن كخارطة للطريق، وللخط السياسي لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وأن شرعية الأجهزة المنتخبة قيادة وقواعد رهينة بالالتزام الضمني والفعلي والسياسي بتوصياته وتوجهاته، وكل تجاوز أو خروج عن مقرراته، يعتبر خروجا على شرعية المؤتمر، وبيانه السياسي العام، وتحايلا على المؤتمر الذي تطلب مجهوداً فكرياً وتنظيمياً كبيراً وشجاعة سياسية من قبل المؤتمرين أيا كانت مواقعهم”.
كما جرى طرح موضوع الإصلاحات السياسية، وهي تعد إحدى المطالب الأساسية التي دعا إليها البيان السياسي، ليس من منطلق الصراع والتأجيج، بل من منطلق الضرورة التاريخية، التي أصبحت تفرض الارتقاء بالشأن العام إلى واقع ديمقراطي خلاق لحياة سياسية نزيهة، وشريفة، تحدد فيها الضوابط وقواعد لعبة سياسية معقولة وعقلانية، وتوازناً واضحاً بين السلطات، تكون الغلبة فيها للشرعية الانتخابية الديمقراطية، المبنية على انتخابات حرة، شفافة تحكمها قواعد يتساوى فيها الجميع، بعيداً عن استغلال بؤس المواطن وحاجته، وكذا فقدانه للثقة.
وتؤكد الوثيقة أن الاتحاد الاشتراكي، من خلال مؤتمره الأخير، لم يزك مشاركته الحكومية، بل جعلها رهينة بالإصلاح الدستوري والسياسي، وجاء في الوثيقة “إن هذا الإصلاح هو شرط المشاركة، ما يجعل من خيار المعارضة خياراً قائماً بذاته في غياب شرط المشاركة، فكل تأكيد للمشاركة بدون إصلاح دستوري وسياسي يبقى تجاوزاً تعسفياً لإرادة الاتحاديات والاتحاديين، وكل تجاوز للمقررات الحزبية، يعتبر انقلاباً على شرعية المؤتمر”.
ووصف تعامل المكتب السياسي ب”المستهجن” في تطبيق توصيات البيان السياسي للاتحاد، وبأن ما حدث هو انقلاب على شرعية المؤتمر، وتجاوز لمقررات الأجهزة التقريرية للحزب، التي لم تصادق على أي تعديل في البرنامج السياسي العام للحزب.
الأسلحة القديمة
عاد الاتحاديون الغاضبون إلى اصطلاحات قديمة، مستنبطة من التراث الماركسي، حين اعتبروا أن “المؤتمر أبدع أرضية سياسية جد متطورة، تكلف الاتحاد الاشتراكي بدور سياسي طلائعي داخل البلاد”، لكن في الوقت نفسه “أفرز مكتباً سياسياً لا يستند في عمله على الأرضية السابق ذكرها”، موضحين أن “هذا التناقض الحاصل اليوم على مستوى الفكر والفعل يعد بالخلل الكبير داخل الحزب”، لأن “غياب التطابق والتكامل بين الممارسة والخطاب، يؤرق المناضل الاتحادي، حيث أصبح الواقع الملموس يحجب حقيقة الحزب فأصبح وزراء الحزب هم الحزب وأصبح بقية المناضلين وأجهزتهم التقريرية على هامش الحزب، لا يشاركون في صنع القرار، ولا يمارسون الصلاحيات المنوطة بهم”، معللين على دور المجلس الوطني في تصحيح الأوضاع وبلورة التكامل المفقود على مستوى الفكر والعمل، والخطاب والممارسة الاتحادية.
لكن كل هذا يبقى، أملاً ضعيفاً في زحزحة الاختيارات السياسية لحزب يعمل اليوم من داخل الحكومة، ولا يرى موقعه في المعارضة، التي ظل فيها طويلا، سوى تضييعا للفرص الحقيقية في مغرب أفضل وأكثر قدرة على مجابهة تحديات المستقبل.
وعلى الرغم من حدة وشراسة السياسي المعروف في الأوساط الاتحادية، والتي وصلت إلى حدود انشقاقات متوالية أضعفت حجم وقوة الحزب، إلا أن تدبر الخلاف الداخلي، وفرض الانضباط هو ميزة لهذا الحزب، الذي أعاد النظر في هويته السياسية خلال مؤتمره الأخير، ليتحول إلى حزب يصنع جزءاً كبيراً من توجهات الحكم.
*الخليج الإماراتية
أحدث أقدم

نموذج الاتصال