بما أن المدرسة المعاصرة والحداثية أصبحت تعتبر رافعة استراتيجية في تحقيق نهضة المتجمعات وخصوصا المتخلفة منها أو التي في طريق النمو، فإنه من الطبيعي أن نجد مفهوم التنمية يحتل مساحات كبيرة في أشكال الخطاب والتدخل لهذه المجتمعات الأخيرة، غير أنه يتم التركيز بشكل كبير على مفهوم التنمية في بعديه الاقتصادي والسياسي، إلى حد ما - وذلك رغم تداول مفهوم التنمية الشاملة، حيث لازال هناك شبه إهمال للأبعاد الثقافية والمعرفية والتربوية والنفسية للتنمية المجتمعية الشاملة.
لذا، سنحاول فيما يلي إلقاء بعض الأضواء على أهمية البعد المعرفي، خاصة في تحقيق التنمية المجتمعية المأمولة، وذلك من خلال الوظيفة التربوية والتكوينية للمدرسة كمؤسسة سوسيو- ثقافية، استراتيجية وحاسمة، وذلك من خلال تنمية شخصية المتعلم، وخصوصا في أبعادها المعرفية والسوسيو - قيمية، ليكون مؤهلا وفاعلا أساسيا في المشروع التنموي والنهضوي لمجتمعه ولمقاربة ما سبق، سنحاول إبراز أهمية وظيفة المدرسة كمؤسسة في تحقيق تنمية الفرد والمجتمع، من خلال بعض النماذج من الخطاب التربوي الإصلاحي الرسمي الجديد.
ثم سنتطرق الى إبراز أهمية المدرسة في التنمية المعرفية والذهنية لشخصية المتعلم، عبر التعرف علي بعض البحوث الميدانيةالتي تؤكد ذلك، ثم سنقوم بالتعريف بما يسمى "التربية المعرفية" كتخصص ومقاربة حديثة تستجيب لحاجيات وأهداف التنمية المعرفية للفرد من أجل التنمية المجتمعية الشاملة، خاتمين بذكر المعارف الضرورية لتربية المستقبل، كما أوردها "إدغار موران" (Edgar Morin) نظرا لأهميتها في تحقيق التنمية القيمية والمعرفية (الذهنية) لدى الفرد / المتعلم، ونتائجها التطبيقية المأمولة في التربية المدرسية لتحقيق التنميةالعلائقية بين-إنسانية على المستويات الفردية والمحلية والعالمية المدرسة والتنمية في الخطاب التربوي الرسمي إن الدينامية الجديدة التي خلقها إصلاح المنظومة التربوية أخيرا، قد خلص نسبيا المدرسة من الخطاب التربوي التقليدي، الذي كان يعطي للمدرسة وبشكل كبير، دورا إيديو- معرفيا ومحافظا...
ويرى بأن المدرسة ليس لها أي وظيفة في التنمية والتقدم، حيث أنها مجرد مؤسسة غير منتجة، وشكل عبئا ثقيلا وزائدا على الدولة (ماليا وسياسيا)... فأصبحت المدرسة - مع الخطاب الإصلاحي الحداثي - عاملا أساسيا في تحقيق التنمية البشرية والمتجمعية الشاملة، وذلك من خلال الاعتماد الرسمي لفلسفات ومقاربات اقتصادية وتربوية واجتماعية عقلانية وحداثية وفعالة.
ويمكننا أن نلمس هذا من خلال الميثاق الوطني للتربية والتكوين، حيث "يروم نظام التربية والتكوين الرقي بالبلاد، الى مستوى امتلاك ناصية العلم والتكنولوجيا المتقدمة، وللإسهام في تطويرها، بما يعزز قدرة المغرب التنافسية، ونموه الاقتصادي والاجتماعي والإنساني، في عهد يطبعه الانفتاح على العالم" كما نجد بأن الاختيارات التربوية الموجهة لمراجعة مناهج التربية والتكوين المغربية (الواردة في الكتاب الأبيض) "تنطلق من العلاقة التفاعلية بين المدرسة والمجتمع، باعتبار المدرسة محركاأساسيا للتقدم الاجتماعي وعاملا من عوامل الإنماء البشري المندمج، ومن إعدادالمتعلم المغربي لتمثل واستيعاب انتاجات الفكر الإنساني في مختلف تمظهراتهومستوياته، ولفهم تحولات الحضارات الإنسانية وتطورها، وإعداد المتعلم المغربي للمساهمة في تحقيق نهضة وطنية اقتصادية وعلمية وتقنية، تستجيب لحاجات المجتمعالمغربي وتطلعاته، وكذلك لكي يكون النظام التربوي المغربي في مستوى مواجهة تحديات العصر ولتحقيق تنمية اجتماعية واقتصادية تضمن للفرد الإندماج في المجتمع، وقدرتهعلى التفاعل في النسيج الدولي، كان لزاما عليه تبني فلسفة تربوية تضمن التربيةالمستدامة للفرد والمجتمع، مادامت التربية هي الموجهة والحاسمة في كل نمو وكل تطور،(بيداغوجيا الكفايات، مصوغة تكوينية...).
ولتحقيق أهداف وغايات التنمية المأمولة، كان لزاما على المدرسة المغربية الجديدة تبني اختيارات تربوية وبيداغوجية حداثيةوحديثة، أثبتت فعاليتها في دول أخرى، وخاصة اعتماد مدخل الكفايات لتحديث وتفعيلا لمنظومة التربوية والتكوينية المغربية، حيث وبعلاقة مع المشروع التنموي المستدام وآمال النهضة المجتمعية الشاملة، تم اعتماد تنمية وتطوير الكفايات التالية: "كفايات مرتبطة بتنمية الذات: تعمل على تنمية شخصية المتعلم كغاية في ذاته، وكفاعل إيجابي تنتظر منه المساهمة الفعالة في الارتقاء بمجتمعه في كل المجالات. "كفايات قابلة للاستثمار في التحول الاجتماعي: حيث تجعل نظام التربية والتكوين يستجيب لحاجيات التنمية المجتمعية بكل أبعادها الروحية والفكرية والمادية. "كفايات قابلة للتصريف في القطاعات الاقتصادية والاجتماعية، والتي تجعل نظام التربية والتكوين يستجيب لحاجيات الإدماج في القطاعات المنتجة ولمتطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
من خلال هذه النماذج المقترحة، من بعض الأدبيات التربوية الرسمية، يتبين نية السياسة التعليمية (إنما الأعمال بالأفعال) في جعل المدرسة كمؤسسة معرفية وتربوية، رافعة استراتيجية لتحقيق نهضة مجتمعية، وذلك عبر تنمية وتطوير الكفايات المعرفية والقيمية لدى المتعلم المغربي، الذي هو الفاعل الأساسي والمستقبلي في تحقيق رهان التنمية المأمولة.
وبما أن لا تنمية مجتمعية بدون أفراد أكفاء ومؤهلين معرفيا وقيميا ومؤسسيا، فإنه وكاختيار استراتيجي، لابد من إعطاء الاهتمام والدعم الكافيين للمؤسسة المدرسية على كل المستويات (المادية والمالية والبشرية...) حيث أن المدرسة تلعب دورا حيويا في تقدم المجتمع ، وذلك عبر أدوارها المتميزة في التأهيل المعرفي والتربوي للأفراد، (كما سنرى لاحقا)، فلا تنمية مجتمعية بدون تنمية معرفية لشخصية هؤلاء الأفراد الذين يكونون المحرك الأساسي لأي مجتمع.
المدرسة والتنمية المعرفية لشخصية المتعلم تشكل المقارنة بين الأطفال المتمدرسين وغير المتمدرسين، أبسط وسيلة لتأكيد وإبراز آثار التمدرس على تنمية الكفاءات والسيرورات الذهنية عند الطفل / الفرد، وعلى تطور شخصيته وأشكال تفاعله مع محيطه الاجتماعي، وهذا ماقامت به مجموعة من البحوث، نذكر منها: أعمال فجوتشكي (19، وهو أول من ربط النمو المعرفي للطفل بالتمدرس عامة، وبالكتاية والقراءة خاصة، كأدوات اجتماعية وثقافية تطور فكر الطفل، حيث أكد على الدور الايجابي الذي تلعبه اللغة المكتوبة كنظام رمزي مجرد في تكوين السيرورات الذهنية العليا، كما نجد بأن لوريا (1976) قد قاد بعثة من علماء النفس في الثلاثينات الى آسيا الوسطى لدراسة آثار الاصلاحات الاجتماعية والثقافية، وبالضبط التمدرس، على الوظائف الفكرية للسكان، الذين لم تكن أنشطتهم تتجاوز حدود العمل الفلاحي التقليدي المحكوم بمظاهر الامية والعزلة عن باقي العالم.. حيث اكتشفت هذه الدراسة أهمية التأثير الإيجابي للتمدرس على فكر السكان، حيث ان المجموعة المتمدرسة تعاملت بطريقة مجردة مع الاختبارات واستجابت إلى العلاقات التصورية والمنطقية للأشياء.
وحسب بروير وروجوف، التمدرس في جل الحالات له تأثير إيجابي جدا على معارف الطفل، يكمن أساسا في تحويل هذه المعارف في طابعها العملي والواقعي المتضمن في السياق الى طابع نظري مجرد ومتحرر من السياق الواقعي.
إن الدراسات السالفة، وغيرها، تقر بأن المدرسة تلعب دورا مهما في الدفع بالطفل إلى ولوج الفكر الصوري المجرد، وتبني وتسرع سيروراته وعملياته الذهنية العليا، وبذلك تلعب (المدرسة) دورا حيويا في الرقي بشخصية الفرد وتنمية ذكائه، مما يؤثر إيجابا على أشكال تفاعله الفعال والناجع مع محيطه الاجتماعي والطبيعي المعقد، بالاضافة إلى أن السيرورات الذهنية العليا لدى الفرد، هي القمينة بإنتاج وإبداع الخبرات النظرية والتكنولوجية والاقتصادية... الجديدة.
كما تؤكد ذلك كل الدراسات المتمركزة حول الموارد البشرية في التنمية المستدامة. وهذا ما جعل الدول المتقدمة أو الطامحة للتقدم تركز بشكل كبير على الكفاءات المعرفية العليا لمواطنيها، لربح رهانات التقدم والمنافسة الدولية الجديدة، حيث أصبح الاقتصاد الجديد، هو "اقتصاد المادة الرمادية"، أي اقتصاد معرفي بالأساس، يعتمد على الكفاءات البشرية لتدبير وصناعة المعارف والمعلومات الابتكارية، التي توظف، بشكل مباشر أو غير مباشر، في النمو الاقتصادي والاجتماعي الشامل.
إن هذه المعطيات والرهانات الجديدة جعلت جل الباحثين والمهتمين يركزون على دراسة الموارد البشرية وسبل تنميتها، وخصوصا تنمية كفاءاتها المعرفية والمهارية، بحيث أصبح هناك تخصص جديد يهتم بالتربية المعرفية، لتنمية وتربية القدرات والكفاءات المعرفية / الذهنية لدى الفرد، فلا بأس ان نتعرف، ولو بشكل مقتضب، على ما يسمى بالتربية المعرفية، نظرا لأهميتها في تحقيق التنمية المعرفية للفرد، ولنتائجها التطبيقية الايجابية، سواء في المدرسة أو المجتمع.
التربية المعرفية يستعمل لفظ التربية المعرفية للإشارة بصفة عامة الى الانجازات والممارسات المعتمدة في هذا الميدان، رغم أنه عادة ما يتم الحديث عن التربية المعرفية كلما تعلق الامر بتسهيل النمو والاشتغال الذهني لدى الفرد الذي يشكو من نواقص معرفية خاصة، وعن العلاج المعرفي كلما تعلق الامر بإمكانية تصحيح النواقص الناتجة عن العوامل التي عطلت ذلك النمو او الاشتغال الذهني.
أما أهدافها، فتحدد في: تربية بنيات المعرفة وتطوير الوظائف الذهنية / الفكرية، ثم تعلم التعلم وتعلم كيفية التفكير، المراهنة على بلوغ الهدف الأول بكيفية مباشرة، دون المرور باكتساب المعارف او الاجراءات الخاصة بتخصص معين ، السعي الى تشكيل الذكاء وتنميته، مع التسليم بإمكانية تربيته، وتوظيفه في تحقيق مستويات جيدة من التعلم والاكتساب.
هكذا، نرى، حسب التربية المعرفية، بأن الكفاءات المعرفية والذكاء بصفة عامة، هما معطيان قابلان للتربية والتنمية والاستثمار، وتبقى المدرسة، هي المؤسسة المؤهلة أكثر من غيرها، للقيام بالدور التربوي المعرفي للأفراد، لتنمية كفاءاتهم وسيروراتهم المعرفية / الذهنية لاستثمارها في المشاريع التنموية الشاملة.
وفي الأخير، نود أن نختم هذه المقاربة، بتقديم المعارف الضرورية لتربية المستقبل كما يقترحها إدغارموران، نظرا لأهمية هذه المعارف في التربية على القيم الأخلاقية والابستيمية، هذه القيم التي تعتبر دماء وشرايين أي تنمية إنسانية في كل أبعادها الوطنية والكونية، حيث على المدرسة الحداثية العمل على إدماجها واستثمارها باستمرار داخل برامجها ومناهجها التربوية والتكوينية. المعارف الضرورية لتربية المستقبل يحدد إدغار موران هذه المعارف في سبعة مبادىء أساسية:
1- معرفة الخطأ والوهم:
حيث أنه من اللافت للنظر - حسب إدغارموران - أن نلاحظ بأن التربية التي تهدف إلى توصيل المعرفة تظل جاهلة بماهية المعرفة الإنسانية وبآلياتها وحدودها وصعوباتها ونزوعها الطبيعي الى الخطأ والوهم، كما أنها لاتبذل أي مجهود لتعرف بماهية المعرفة.
2 - مبادىء المعرفة الملائمة:
هناك قضية حاسمة يتم تجاهلها على الدوام، وتتعلق بضرورة بناء معرفة قادرة على تمثل المشاكل الشمولية والجوهرية، في أفق دمج المعارف الجزئية والمحلية داخلها.. حيث من الضروري تطوير القدرة الطبيعية للفكر البشري على موضعة معارفه داخل إطار وسياق محددين. من الضروري تدريس المناهج التي تسمح بتمثل العلاقات والتفاعلات بين الاجزاء والكل داخل عالم مركب.
3- تعلم الشرط الإنساني:
الإنسان هو في الوقت ذاته كائن فيزيائي وبيولوجي ونفسي وثقافي واجتماعي وتاريخي، وهذه الوحدة المركبة للطبيعة الإنسانية هي ما يعبث بها التعليم في مختلف المواد الدراسية• وبفعل هذا التشتت، أصبح من المستحيل تعلم اليوم ما يعنيه الكائن الإنساني... من الملح لكل فرد، أينما كان، أن يعي الطابع المركب لهويته ولهويته المشتركة مع الآخرين. لذلك على التعلم أن يجعل من الشرط الإنساني موضوعه الجوهري...
4 - تعليم الهوية الأرضية:
يعتبر المصير الكوكبي البشري الغائب الأكبر عن التعليم، يجب أن تصبح المعرفة بمستجدات العصر الكوكبي (العولمة)، والاعتراف بالهوية الأرضية أحد المواضيع الجوهرية للتعليم...
5 - مواجهة اللايقينيات:
يجب تعليم مبادىء الاستراتيجية التي تمكن من مواجهة المحتمل واللامتوقع واللايقيني، حسب المعلومات المحصل عليها أثناء القيام بفعل ما، والعمل على تغيير مسار تطورها. يجب تعلم الإبحار في محيط اللايقينيات عبر أرخبيلات من اليقين...
6 - تعليم الفهم:
يشكل الفهم في الوقت ذاته وسيلة التواصل الإنساني وغايته... إن كوكبنا يتطلب أنواعا من الفهم المتبادل في جميع المستويات وعلى جميع الأصعدة... لقد أصبح التفاهم بين البشر أمرا حيويا لكي تتحرر العلاقات الإنسانية من الوضعية الوحشية التي يتسبب فيها اللاتفاهم...
7 - أخلاق الجنس البشري:
يجب ترسيخ الاخلاق في العقول، عبر تعليم الوعي بكون الإنسان هو في الوقت ذاته فرد وجزء من مجتمع وجزء من نوع. إن كل واحد منا يحمل داخله هذا الواقع الثلاثي الأبعاد. من هنا تتضح الغايتان الأخلاقيتان السياسيتان الكبيرتان للألفية الجديدة، أولاهما بناء علاقة المراقبة المتبادلة بين المجتمع والافراد عن طريق الديمقراطية وتحقيق البشرية كجماعة كوكبية.
إن هذه المبادىء المعرفية / التربوية السالفة، وكما قلنا، هي مدخل أساسي لبناء وتفعيل المدرسة الحداثية، لجعل المعرفة العلمية والإنسية مساهما استراتيجيا في تحقيق التنمية البشرية الشاملة، في بعديها المحلي والعالمي، حيث لا تنمية حقيقية بدون معارف وقيم علمية وإنسية ومواطنة، فالتنمية الشاملة هي مشروع مجتمعي إنساني مركب، يتداخل فيه السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والنفسي والمعرفي.
والمحلي والعالمي، وتبقى المدرسة، دائما، هي تلك المؤسسة الاجتماعية المؤهلة لتحقيق التنمية الشاملة عبر إشاعة وإنتاج التنمية المعرفية، التي هي في خدمة تنمية شخصية الفرد والمؤسسات والقطاعات المجتمعية على السواء، بطريقة جدلية وتفاعلية.
التسميات
وظائف المدرسة