مثلما اعتادا على مر الأيام، قصد الفتيان طريقهما إلى الحقول الخضراء، حملا المعاول والمناجل والفؤوس وخرجا لنبش العشب حول شجر الزيتون، وحملا أيضا الأحلام الجميلة: العودة ببعض قطع الحديد الخردة ووزنها في دكان دلال زقح الواقع في الطريق إلى الحقل والخلود إلى الراحة توطئة ليوم العمل التالي.
لكن رحلة أمس، بالنسبة لمحمد فيصل قواريق (19 عاما)، وصلاح محمد كامل قواريق (19 عاما) من قرية عورتا بمحافظة نابلس في الضفة الغربية، كانت رحلة الوصول إلى الخلود الأبدي، فقد تعرضا للإعدام في حقل الزيتون ذاته الذي كانا يحلمان بالرحلة إليه كل يوم.
وقتل جيش الاحتلال الإسرائيلي، أو أعدم، كما يؤكد سكان القرية المذهولة، أبناء عائلة قواريق بدم بارد الشابين اللذين اعتادا ملازمة بعضيهما في العمل، فهما من نفس الجيل وأبناء خالات ويمتهنان نفس المهنة.
وفتحت سرادق العزاء فيهم في القرية التي يسودها الوجوم، يجلس فيها رجال مذهولون، مثلما هي السيدة زقح المذهولة. لقد فقدت اثنين من فتية القرية طالما اعتبرتهما مثل ولديها.
"مرا أمس مثلما يمران كل يوم. كانا يشتريان العصائر والبكسويت ويمضيان إلى يوم عملهما ويعودان إلى هناك ليزنا الحديد، وأمس مضيا من عندي وهما يضحكان ويلهوان، مضيا ولم يعودا"، قالت زقح وهي تضرب أخماسا بأسداس على مقربة من الدكان الذي أغلق حدادا على الشهيدين.
ويسود عورتا ذهول، ويستصعب تصديق الأمر على بعض السكان، فلم تكن نهاية مثل هذه النهاية متوقعة للشابين المسالمين اللذين لا يبحثان سوى عن قوت يومهما في حقول القرية.
"البلدة هادئة منذ وقت، رغم أنها كانت في الماضي بؤرة احتكاك، وليس فيها أية حوادث تذكر، ولم يتوقع أحد هذا المصير للفتيين"، قال حسن عواد رئيس المجلس القروي فيما كان يقف على تلة عالية تشرف على السهل المنبسط الذي استشهد فيه محمد وصلاح.
وشكك أهالي عورتا بادعاءات قوات الاحتلال المتعلقة بإطلاق النار على الشابين، وأكدوا أن عملية إطلاق النار كانت متعمدة وبهدف القتل، خاصة وأن الشهيدين كانا أعزلين ويعملان في أراضيهما القريبة من المستوطنة.
ونقل رئيس المجلس القروي حسن عواد عن شاهد عيان، قوله إن الجنود طلبوا من الشابين الجلوس على الأرض قبل أن يتم إطلاق النار عليهما، وقال "إن أحد الضباط الإسرائيليين أقر بأن قتل الشهيدين جاء بعد تفتيشهما".
وزعم جيش الاحتلال أن أحد الشابين حاول مهاجمة الجنود فرد أحدهم بإطلاق النار. وقال إنهما لم ينصاعا لأمر التوقف. وقتل جيش الاحتلال قبل ذلك فتيين آخرين في عراق بورين وساق ذرائع ركيكة لتبرير عملية القتل.
ونفى عواد الرواية الإسرائيلية التي تحدثت عن محاولة أحد الشابين طعن جندي إسرائيلي، مؤكداً أن الشابين كانا داخل أرضهما التي تبعد نحو 700 متر عن أطراف القرية عندما أوقفهما الجنود وأطلقوا النار عليهما. وقال نقلاً عن شهود عيان من سكان قريته، إن جنود الاحتلال أمروا الشابين قواريق بالجلوس، وبعد ذلك سمع إطلاق النار.
وقال غسان دغلس مسؤول ملف الاستيطان في شمال الضفة الغربية، إن جنود الاحتلال قتلوا الشهيدين قواريق بدم بارد، وأعدموهما عن قصد "هذه هي الرواية وهذا ما جرى".
وأضاف أن الجنود أوقفوا الشهيدين وأردوهما بالرصاص، مشيراً إلى أن الرواية الإسرائيلية سيقت فقط بهدف تبرير عمليات القتل التي جرت على مدار اليومين.
يؤكد الأمر رجال كثر في القرية التي يعمل جزء كبير من سكانها في الحقول التي تتعرض لهجمات المستوطنين.
ويقول عواد إن رجلا كان يقف وسط حقول الزيتون في سفح جبل مطل على المنطقة التي وقعت فيها عملية القتل شاهد الجنود عندما أوقفوا الفتيين وفتشوهما، وبعد ذلك بدقائق سمع دوي إطلاق النار.
وقال قيس مروان وهو يشير إلى امتداد مستوطنة 'ايتمار' التي تمتد على الهضاب والجبال المحيطة بعورتا "ليست هذه بداية القصة، فقبل شهور قتلوا شابا هناك عندما طاردوا مركبته أثناء عودته من قطف ثمار الزيتون. مسلسل القتل لن يتوقف عند هذا الحد".
ويحمل حسن عواد لائحة لأشخاص فقدوا أعضاء من أجسادهم، وبعض حواسهم أثناء عملهم داخل الحقول التي تترك فيها بقايا ألغام وقنابل للجيش، ومن ثم تنفجر في الفلاحين.
وعورتا التي تحيط بها أراضي تقدر مساحتها ب 22 ألف دونم خسرت خلال السنوات الماضية 12 ألف دونم من أراضيها المزروعة بالزيتون، كما قال أحد أعضاء المجلس القروي.
وتظهر الطرق الاستيطانية والأخرى التي يستخدمها جيش الاحتلال تتفرع في أكثر من اتجاه في محيط القرية، ومن على بعد تظهر الطريق التي توقف جيب الجيش وترجل منه الجنود قبل أن يقتلوا أبناء قواريق اللذين ذهبا إلى مصيرهما الأخير.
جميل ضبابات
التسميات
فلسطين