سيذكر التاريخ أنّ فرنسا لم تعرف رجلا سياسيا خلط بين حياته الخاصة والحياة السياسية، مثلما فعل 'الرئيس الفرنسيّ 'نيكولا ساركوزي'. فإليه يعود سبق التأثير في الرأي العام عبر النّقل المتعمّد لحياته الخاصّة إلى صفحات الجرائد والمجلات'! ومازال كثير من الفرنسيين يذكرون ما حدث في الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي امتزج فيها السياسيّ بالعاطفيّ. فلأوّل مرّة يجد الناخب الفرنسيّ نفسه موزّعا بين المشاريع السياسيّة التي يتقدّم بها المترشحون، وبين الحكايات العجيبة التي تنقلها وسائل الإعلام عن تصدّع العلاقة بين 'ساركوزي' وزوجته السابقة، وعن محاولاته لاسترضائها كي تشاركه الدخول إلى 'الإيليزيه'.
هذه الأيّام الرئيس الفرنسي'نيكولا ساركوزي' في قمّة الغضب.فالانتخابات المحلّيّة الأخيرة زادت من تراجع شعبيته، ومن خيبات الحزب الذي يرأسه، ووضعت مستقبله السياسي على كف عفريت.
وحتى محاولته الأخيرة في الانحناء للعاصفة كي تمرّ بأقلّ الأضرار لم تجد نفعا. فقد أتت نتائج الانتخابات المحلية كارثية رغم محاولة الرئيس لفت الانتباه إليه عبر إشاعة خبر نيّته في عدم الترشّح لولاية ثانية، 'ساركوزي'الذي اعتبر الانتخابات الأخيرة استفتاء على شعبيته،اصطدم بواقع جديد يقلص من حظوظه في تمديد إقامته بقصر 'الإيليزيه'.ففقد أعصابه. وتتطايرت سهام غضبه 'لتطيش' الجميع مقرّبين وأباعد.. أول 'ضحاياه' رئيس الوزراء الذي حمّله مسؤولية الفشل، واتهمه بالضعف في التعاطي مع أجواء الانتخابات التي أعادت الاشتراكيين إلى مواقعهم الطبيعيّة.
مُدللته السابقة، وصديقة مطلقته 'سيسيليا'، لم تسلم، هي الأخرى، من تيار غضبه إذ أمر الرئيس بسحب السيارة التي تستعملها بصفتها'وزيرة عدل' سابقة. وصرف حراسها الأربعة الذين كانوا يصاحبونها في تنقلاتها. ودعاها عبر وسطاء إلى أن 'تغلق فمها'، وأن تتوقّف عن سرد الحكايات عن قرب طلاقه من'كارلا بروني' التي يتهامس الكثير بأنّ مهامها الزوجيّة ستنتهي بانتهاء مدّته الرئاسيّة!
أمّا وزير الخارجيّة 'كوشنير' فهو، منذ زمن طويل، يتلقّى من الرئيس الصفعة تلو الأخرى محاولا أن ينحني للعاصفة. لكن يبدو انه أصبح على يقين من قرب انتهاء علاقته بالخارجيّة. لذلك استسلم للصمت انتظارا لإعلان تغييره الذي أضحى حتميّا.
وقد وجد'نيكولا ساركوزي' في استقبال برلمانيي حزبه فرصة ملائمة كي يصعّد من التعبير عن غضبه من أداء الحزب والحكومة ،ويُفرغ شحنة غضبه تلميحا وتصريحا.
فلم ينج من غضبه حتى صديقه وأمين أسراره 'هورتفو' الذي أوكل إليه حقيبة الداخليّة.إذ وجّه إليه كلاما ساخرا قائلا 'لقد قتلتُ وزارة الداخليّة..' ملمّحا إلى أنّ صديقه لم يكن ناجعا مثلما كان هو سنة 2002.
أما 'جوانوّ'كاتبة الدولة للبيئة المقرّبة من الرئيس من المصير نفسه ،والتي صرّحت بما يفيد عدم تحمسها للأداء على الكربون الذي تطرحه الحكومة فقد ذكّرها بأنها يجب أن تنضبط وأن تنسجم مع ما تقرره الحكومة التي تنتمي إليها قائلا:'كونك مساعدتي القديمة لا يعني المسّ من التضامن الحكومي'.
وما يأتيه الرئيس 'نيكولا ساركوزي' من أفعال، وما يصدر عنه من أفعال، من شأنه أن يطرح أسئلة عن طبيعة نظام الحكم الذي ابتدعه.ففرنسا التي تتبجح دائما بأنّها الدولة الديمقراطيّة التي تعلي القانون، وتقلّص من سلطة الأفراد، تبدو تائهة بين جمهورية قائمة وملكيّة داهمة. ولم يعد خافيا أن 'الملكي' قد غلب 'الجمهوري' زمن حكم هذا الرئيس. فهل من الديمقراطية أن يصدر عن رئيس ما يهين وزراءه؟ وهل من الديمقراطيّة أن يعاقب رئيس وزيرا أو نائبا بحرمانه من سيارة أو حرس خاص؟ وهل أصبح الخوض في أناقة زوجة الرئيس،وعن جمالها مظهرا من مظاهر الانتصار لقيم الجمهوريّة؟ وهل أمسى الحديث عن زواج الرئيس وطلاقه مشروع قانون ينظر فيه البرلمان؟
يحدث كلّ هذا في فرنسا التي لا يتورّع كثير من سياسييها عن نقد نظم الحكم في دول العالم الثالث، والتباكي على غياب الديمقراطيّة فيها.
أليس في ما يستجدّ في فرنسا الأمس واليوم، عبر ودروس لكل مهووس بديمقراطية الغرب التي تسوّق دائما على أنها الجنّة الموعودة في حين أنها جحيم من الانتهازيّة والفساد المالي واللعب على مشاعر المستضعفين في الأرض.
محمد صالح مجيّد
' كاتب تونسي
التسميات
أعلام