انه لمن المتناقضات ان يتصور احد ان الديمقراطية في العالم العربي هي الخطر الفعلي على المصالح الامبريالية في المنطقة. لا بل اخطر من الايديولوجيات الاخرى، بما فيها الاسلامية. والكثيرون الان يعتقدون ان الاسلام هو حقيقة هذا الخطرعلى المصالح الغربية، اريد ان استحضر القليل من التاريخ الاستعماري الحديث في الوطن العربي الذي يبين كيف ان الحركات الاستعمارية كانت تدعم الحركات الاسلامية وتعايشت معها، كما كان في فلسطين، مصر، القاعدة وغيرهما. ليس القصد مهاجمة الحركات الاسلامية او غيرها، ولكن ما اريد قوله، انه عندما تختار الانظمة الانخراط في العملية السياسية سواء كانت حركات اسلامية او غيرها لابد لها من ان تتفاعل مع العملية الاجتماعية. بمعنى التأقلم مع ما تفرضه البيئة المحيطة سواء كانت سياسية، اجتماعية او اقتصادية. علما ان الحريات الشخصية والسياسية والمساواة في الفرص حسب المقدرة الفردية هي من عماد الحياة الديمقراطية اليومية في الغرب بشكل عام- نادرا في احسن الاحوال- ان نشهد الاستعمار الغربي المستمر بطرق واساليب قد تختلف او تتشابه عما كان في الماضي يدعم الحريات والديمقراطية بشكلها الحقيقي. هنا لابد للمرء ان يتساءل لماذا؟ كيف تتم محاربة الديمقراطية من قبل الطبقة الحاكمة في الدول العربية؟ ولماذا دائما يدعى ان الاسلام متناقض مع مبادئ الديمقراطية على الاقل في طريقة ادارة الحياة السياسية؟ في هذه المقالة القصيرة لا اتطلع للاجابة على هذه الاسئلة بكامل التفاصيل والتعقيدات، ولكن آمل الاجابة، ولو جزئيا، على الاسئلة ، وآمل ايضا النجاح في لفت نظر القارئ العربي لهذا النوع من الحديث السياسي والاجتماعي.
لماذا لا يدعم الغرب الديمقراطية في الوطن العربي رغم الجدل السياسي حول تصديرالديمقراطية للشرق الاوسط؟
ان رزمة الحريات الشخصية والسياسية واخيرا الديمقراطية لم تكن مقدمة على اطباق من ذهب للشعوب. بل كانت حصيلة وعي فكري ومعرفي وحروب في اوروبا بالتحديد. ان المفكرين، خاصة المدرسة التعاقدية، يرون ان الانسان اختار ترك الحياة البدائية وعدم الاستقرار للعيش ضمن الحياة المدنية. في الحياة المدنية يتنازل الانسان عن حقه في طريقة العيش البدائية وحريته التي منحته اياها الطبيعة ليحصل على الحرية المدنية، حق التملك والحرية الاخلاقية. وفي نفس الوقت يتفق الناس على أمرين: الاول، اللاعنف في حل الخلافات والثاني، الاتفاق على قواعد السلام. في الحقيقة، كلا الشرطين لا يضمنان تحقيق السلام المدني، لذلك لابد من طرف ثالث لضمان تطبيق الاتفاقين، الا وهو الحاكم او الدولة بسلطاتها التشريعية والتنفيذية. هذا الوضع ساد اوروبا لعدة قرون حتى انهار الاتحاد المقدس في بداية الحرب العالمية الاولى. في تلك الفترة حصل الكثير من التقدم في المعرفة وحصل المواطنون على الحريات وحصلت الطبقات العاملة على المساواة في المواطنة. بهذا نستطيع القول ان الليبرالية، بمعنى كسب المواطنين رزمة الحريات - الايجابية والسلبية والواجبات بالتساوي، قد سبق بعدة قرون الديمقراطية التي ايضا اخذت قرن من الزمن حتى اصبحت مستقره في اوروبا. اذن، ماهي الديمقراطية؟ الديمقراطية هي اسلوب او فكرة اغريقية لادارة شؤون المدينة بطريقة مباشرة من قبل سكان المدينة. ولان، حجم المجتمع السياسي قد اتسع، لم تعد الادارة او الحكم المباشر ممكنا، لذا تطورت الفكرة لاشكال متعددة. اهمها الديمقراطية التمثيلية بمعنى ان يختار المواطنون ممثلين عنهم لادارة مصالحهم. الممثلون يجب ان يكونوا مختارين ومخولين من قبل ممثليهم وايضا للشعب الحق في مساءلتهم ومحاسبتهم ووضعهم في السلطة او حجبهم. أريد ان ألفت النظر الى ان الحريات الفردية وجعل المواطن قادر على ممارسة هذه الحريات - اي توفير حاجات الانسان والحريات الاولية ـ تسبق الديمقراطية. هذا يدخلنا الى امر، برأي، اهم من الديمقراطية التي يريد الغرب تصديرها للعرب وهي ديمقراطية شكلية مفرغة من مضمونها، الديمقراطية الحقيقية لابد لها من ان تشمل الحريات وحرية الاختيار وتقرير المصير. ان الفهم الاعمق لمضمون الديمقراطية هو المدخل لمحاولة الاجابة على الاسئلة المطروحة في البداية. ان الديمقراطية في العالم العربي بالمعنى الحقيقي للكلمة، للاسف، معدوم لان ابسط الحريات مصادرة من المواطن العربي. هناك من يعزو ذلك للاسلام، اي ان الدين الاسلامي لا يتوافق مع الديمقراطية. ومن المفارقات ان بدايات التحرر في العالم العربي نحو الديمقراطية قد سبقت الاتحاد السوفييتي السابق والصين وكثير من الدول الاوروبية مثل البرتغال واسبانيا. ولو رجعنا بالزمن قليلا الى ما قبل الحكم الديمقراطي في اوروبا، وبنفس روح الجدلية لاستنتجنا ان المسيحية لا تتوافق مع روح الديمقراطية وهذا انثولوجيا، ابستمولوجيا وعمليا غير صحيح. قد يكون الوطن العربي هو اكثر الاماكن للتدخلات الغربية في التاريخ الحديث، ولو اراد الغرب تصدير الديمقراطية للعرب او غير العرب لفعل ذلك، او على الاقل لاستثمر في ذلك. في الواقع ان الاستعمار كبح ومايزال يكبح حركات التحرر الوطني ومشاريع الوحدة العربية وحتى الحركات الشيوعية في العالم العربي. ليس من باب المصادفة، او طرائف الزمان ان نجد الانظمة الديمقراطية في الغرب من اشد الداعمين للانظمة الدكتاتورية لمنع المواطن من ان يكون فاعلاً في تشكيل واقعه واستغلال ثرواته كما يراه مناسبا في دول العالم الثالث وخاصة العربي منه. ليس اقرب لذاكرتي كمثال للتوضيح لا للحصر، ما قاله وزير خارجية اسرائيل السابق: 'ان احد معاني اتفاقية اوسلو كان جعل منظمة التحرير الفلسطينية (م.ت.ف) من معاوني اسرائيل في مهمة ازاحة الانتفاضة [الاولى] والقضاء على ما كان واضحا انه كفاح حقيقي وديمقراطي نحو الاستقلال الفلسطيني.' ليس القصد ان ازعم ان م.ت.ف قامت بهذا الدور او غيره، ولكن توضيح طريقة التفكير لدى صانعي القرار السياسي في الغرب في تعاملهم مع القضايا العربية. من اهم عناصر نقل تجربة الديمقراطية للشعوب الاجنبية هو الاصغاء لمصالح الشعوب المستهدفة واعطاؤها اولوية على مصالح الدول المصدرة واستخدام الاساليب التي تتناسب مع الهدف، اي ان الحرب (كوسيلة) لا تتناسب مع الديمقراطية (النهاية). على سبيل المثال، عندما ارادت الديمقراطيات الاوروبية تصدير الديمقراطية للبرتغال، اليونان، اسبانيا وحديثا العديد من دول اوروبا الشرقية، فعلت ذلك بطرق تتلاءم والهدف بواسطة محفزات سياسية واقتصادية. عكس ذلك ما تقوم به التدخلات الغربية في العالم الثالث والوطن العربي على وجه الخصوص. ولكي نكون أكثر دقة، بعد 11/9 حاولت الولايات المتحدة فرض الديمقراطية على بعض الانظمة العربية ظنا منها ان الديمقراطية ستعزز المصالح الامريكية في المنطقة. ولكن الشعب الحر (حسب المعنى الجوهري للديمقراطية) لا بد له من انتخاب من يخدمون مصالحه، وليس العكس، خدمة لمصالح ضيقة ومصالح الغير. هذا ما خلص اليه الكثير من الكتاب في الغرب وبالاخص الليبراليين الجدد - التي في جوهرها قائمة على الاقتصاد الحر- الى القول ان دمقراطية الشعوب الاخرى لا تتماشى والمصالح الامريكية، فعلى سبيل المثال يتساءل الكاتب في بداية بحثه: 'هل التحرك نحو الديمقراطية، بالتحديد في العالم الاسلامي، يعزز المصالح. (الامريكية؟' ويخلص للنتيجة التالية: ان ما يريده المستقبلون للديمقراطية (العالم العربي) هو ليس ما تقصده امريكا او اوروبا. ان الديمقراطية الحقيقية تقوم اساسا على الحريات الفردية والجماعية للشعوب لتختار الطريق لتقرير المصير. ان الشعوب لا تعيش بمعزل عن التاثيرات الداخلية والخارجية، وليس بالضرورة ان يكون التدخل الاجنبي سلبياً، ولكن، لو تفكرنا قليلاً في التدخلات الاجنبية في العالم العربي لوجدنا انها في غالب الاحيان تقوض ما قد يؤدي لخلاص وحرية الشعوب. لا يحتاج المرء الكثير من القدرات العقلية ليستنتج ان الاستعمار باسم الديمقراطية وحقوق الانسان - والتي هي في اسوأ احوالها في العالم العربي للاسف- يدعم مجموعات وحتى افراد الطبقة ضد مجموعات اخرى. فأختصرت السياسة في العالم العربي الى سياسة المحاور والاقطاب، اي الثنائية: اما مع او ضد الغرب. وهذا استنفد جل وقتنا، لذا لم يتبق الكثير للتفكر في مشاكلنا الاجتماعية، الاقتصادية، الفقر، الفجوة المعرفية وحتى الثقافية لدرجة ان المواطن لا يجد ما يلبي حاجته الفكرية العصرية فيلجأ للتأسي بالتاريخ القديم. بالطبع ليس تحرير المواطن العربي مسؤولية امريكية او اوروبية، وليست الديمقراطية والحريات دين ليبشروا بهما. الشعوب هي المسؤولة الوحيدة عن تحرير نفسها وانتزاع حقوقها وحرياتها. كما كان في الغرب وسيكون في الشرق. كانت العبودية يوما ما شيئاً مقبولاً في الثقافة العامة، بل قبل مبدأ العبودية بعض الفلاسفة الكبار مثل ارسطو او توماس جفرسون الذي ملك المئات من العبيد ولم يحرر احداً منهم في حياته، وانما حرر خمسة عند مماته. لولا ان العبيد او السود في امريكا طالبوا وناضلوا لتغيير الرأي العام وبالتالي الوصول الى الخلاص. كذلك هو الحال بالنسبة للشعوب العربية، لا يختلفون بشيء عن بقية الشعوب، لن تكون الشعوب العربية حرة ما لم تقم الشعوب بالعمل الجماعي والنضال والتضحية للوصول للحرية والديمقراطية التي تخدم مصالحهم وتتطلعاتهم.
التسميات
ديمقراطية