يمكن أن يفهم من التقريرين الصادرين عن المندوبية السامية للتخطيط حول تمركز مصادر الثروة في خمس جهات من بين الستة عشر جهة المكونة لتراب المملكة، أي بنسبة 31% من مجموع الجهات خلال الفترة الممتدة من 2004 و2007، أو ذاك التقرير الصادر عن وزارة المالية الذي يقتصر على أربع جهات كمصدر لثروة المغرب خل الفترة الممتدة بين 2000 و2007 كمساهمتين في إثراء النقاش القائم حول الاجتهاد في بلورة تصور مغربي للجهوية الموسعة في المغرب ومن ثمة التفكير في آليات تفعيلها.
كما صرح معدو هذين التقريرين إلى كون هذين الأخيرين بإمكانهما لعب دور البوصلة في سن السياسات الاقتصادية والاجتماعية المقبلة.
أولا: أتساءل كيف بإمكانهما تشكيل بوصلة للسياسة الاقتصادية المستقبلية وهي لا تزال تعتمد مؤشر الناتج الداخلي الخام الذي تم تجاوزه وانتقاده بل وإثراءه بمؤشرات أخرى من طرف جل الدول لعدم أخذه بعين الاعتبار لعدد من مصادر الثروة وخصوصا بالنظر لخاصية جغرافية اقتصاد المغرب.
وأقصد هنا على الخصوص جهتي شمال وشرق المغرب المعروفتين بمنطقتي الاقتصاد الحدودي ومدى الصعوبة في حصر الثروات التي تروج عبر هاتين المنطقتين.
ثانيا: إن تأملنا لخريطة المغرب خلال تحليلنا لخلاصات هذه التقارير يجعلنا نجزم بأنهما مجانبين للصواب والحقيقة، بل ومرفوضين تماما لكونهما يجعلان من المنطقة الممتدة من طنجة-تطوان مرورا عبر الدار البيضاء والرباط إلى حدود مراكش وسوس، مصدر وأساس ثروة الاقتصاد المغربي بل والفاعل الأساسي في إنتاجها.
من خلال هذا المنظور الخاطئ، من زاوية الفاعل الأساسي لخلق الثروة، يمكن للمرء أن يطرح عدة تساؤلات:
هل الأربع أو الخمس جهات هي المنتجة وبالتالي هي التي تعيل الجهات الإحدى عشر أو الاثنتى عشر الأخرى الغير المساهمة في المؤشر المتجاوز المعتمد في التقريرين؟
فهذا المنطق مغالط للواقع لكونه يجعل ساكنة الجهات المدرجة ضمن الجهات غير منتجة تعتقد أنها عالة على الجهات المنتجة.
والواقع غير ذلك، لكون هذه الجهات هي المزود الرئيسي للجهات المنتجة بنصيب كبير من عناصر الإنتاج سواء منها الرساميل أو اليد العاملة أو المواد الأولية.
إن جزهر المسالة تكمن في عدم استفادة المناطق المصدرة لعناصر الإنتاج من الثروة المنتجة وعدم استثمار ولو جزء منها في منطقة مصدرها.
وهذا يترب عليه ما هو سلبي أي هجرة أدمغة هذه المناطق المحسوبة ضمن المناطق غير المنتجة نحو المناطق المنتجة والاستقرار بها والمساهمة فعليا في رقيها وازدهارها.
فعناصر إنتاج منطقة غنية أصلا تستفيد منها وتزدهر بها منطقة أخرى فقيرة أصلا أي قبل هجرة عناصر الإنتاج من منطقتها الأصلية.
ثالثا: إن المظهر الاقتصادي الناجم عن خلاصات هذه التقارير وللأسف لا يبرز لا تعليلات ولا تفسيرات لهذه الوضعية غير المتوازنة والمخطئة في مفهوم مضمون نتائجها.
كما أنها لا اقتراحات عملية تقدمها لإعادة النظر في السياسة الاقتصادية وتصحيح أهدافها لفائدة إعادة الاعتبار للجهات المصدرة لعوامل الإنتاج دون الاستفادة من الثروات التي ساهمت في إنتاجها.
وهذا جد ممكن إذ لا نزال نتذكر أنه من بين أهداف الإحصاء العام للسكن والساكنة الذي قام به المغرب سنة 2004، كان تسليط الضوء على المناطق أو الجهات التي تعيق ازدهارها بعض المعيقات أو الاكراهات بهدف، كما صرح بذلك أنداك السيد المندوب السامي لمندوبية التخطيط، سن سياسة اقتصادية واجتماعية تتماشى وحاجيات كل منطقة أو جهة معينة.
إن أي محاولة لتفسير عدم التوازن الاقتصادي والاجتماعي بين جهات البلد وخصوصا في ما يتعلق بالاستفادة من ثروة البلاد والتي لا يجب أن نختزلها في الناتج الداخلي الخام لكونها تتعداه، تبقى صعبة لتشابك عناصرها وللتغييرات التي شهدها المشهد السياسي المغربي من خلال تعاقب حكومات ذات توجهات أو أولويات متباينة ومن خلال كذلك تأثيرات التحولات التي شهدها ويشهدها محيط الاقتصاد المغربي إن على الصعيد الجهوي أو على الصعيد الأورومتوسطي أو كذلك على الصعيد العالمي.
رابعا: من خلال هذا التقرير يمكن كذلك الاقرار بعجز الحكومات السابقة التي توالت على تدبير الشأن العام على إرساء سياسة اقتصادية اجتماعية تفضي إلى توازن بين مختلف جهات المغرب.
فهذه التقارير تشهد ضمنيا على الطابع الوهمي للشعارات التي والوعود التي كان يتفوه ويصرخ بها مجمل نواب الأمة خلال الحملات الانتخابية.
فبمجرد لباس السلهام الأبيض والاسترخاء على المقعد المريح تحت قبة البرلمان، يتناسوا ما صرحوا ووعدوا به من العمل على تحقيق التوازنات بين الجهات.
فالشعب المغربي واع كل الوعي بهذا الأمر الآيل للزوال لكون التعليمات السامية واضحة وصارمة في هذا الاتجاه.
كما أن الزيارات الماراطونية لملك البلاد من شمال المغرب إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه لدليل على هذا التوجه التسونامي والذي سيقود بفضل الحنكة السياسية والاقتصادية السامية، عاجلا وليس آجلا، لإبقاء ولديمومة الأصح والأصلح.
خامسا: إذا كانت هاته التقارير تشير لكون الإحدى عشر أو الاثنى عشر جهة لا تساهم في ثروة البلاد، فهذا خطا جسيم وإقصائي ومؤثر.
- أولا، لكون رجالات ومصادر ثروات هذه الجهات هي التي تستغل في الجهات الأربع أو الخمس.
المشكل يكمن في عدم استفادة الجهات الأصلية من الثروة المنتجة أي الناتج الداخلي الخام واستثمار ولو جزء منها في مصدرها الأصلي. إنه دور الحكومة من خلال سياستها الاقتصادية ودور نواب الأمة في المصادقة على هذه السياسة غير المتوازنة النتائج جهويا.
وفي غياب الحكومة وكذا جل البرلمانيين واكتفاءهم بالمكوث في الرباط أو السفريات إلى الخارج، يظل ملك البلاد هو المنقذ الوحيد والأوحد للجهات المنسية وذلك من خلال زياراته لها وإقامته لمشاريع بالغة الأهمية تعيد لها مكانتها ولساكنتها الاستقرار وخصوصا تعيد لساكنتها الاعتبار لكونهم هم من ساهموا ويساهموا، من خلال رحيلهم للجهات الاخرى، في خلق الثروة.
- ثانيا: ولما لا نتساءل عن مآل الجهات المصنفة بالجهات المنتجة إذا ما لم ترحل اتجاهها، مرغمة على ذلك، سواعد وأدمغة ومواد أولية ورساميل الجهات الأخرى؟
الجواب بين وجلي. وسيتجلى بعمق كبير مع الشروع في إرساء وتفعيل الجهوية الموسعة المغربية الملامح. حينها سيضطر كل ممثلي الدواوير والجماعات والبرلمانيين للعودة إلى جهتهم الأصل قصد خدمتها فعليا والرقي بمستوى عيش ساكنتها من مختلف زواياه، لما الغرابة… إذا كانت هذه هي المسئولية التي أسندها الشعب إليهم.
بل أكثر من ذلك سيعود الغيورون على جهتهم للمساهمة في إعداد سياسة اقتصادية جهوية وقانون مالية جهوي يعطي الأولوية لما تتطلبه الجهة وما يجعل المسئولين على إعداد مثل هذه التقارير، والتي لا قيمة لها سوى أنها تشويشية ومحبطة وناقصة، إلى إعادة النظر في تصورهم للجهات المنتجة.
فكون هذه التقارير تتحدث عن مؤشر الناتج الداخلي الخام وهذا يعني أنها اعتمدت إحصائيات الأنشطة المتوفرة لذا وزارة المالية أي الأنشطة المستندة بوثائق وحسابات.
وهنا يطرح السؤال حول طبيعة الاقتصاد المغربي وخصوصا أنشطته الاقتصادية والاجتماعية والتي، ليس في مجملها، لا تتوفر على وثائق محاسباتية . بل وحتى تلك الأنشطة المتوفرة على هاته الوثائق يطرح السؤال حول شفافية ومصداقية الأرقام المصرح بها.
سادسا: عدة أسئلة مهيمنة تظل عالقة والإجابة عنها ضرورية لاكتشاف الداء ليسهل آنذاك إيجاد الدواء:
- لماذا اكتفت هذه التقارير بإبراز الجهات المساهمة في خلق ثروة البلاد اعتمادا على الناتج الداخلي الخام وهي تعلم أن هذا المؤشر متجاوز وغير علمي وغير واقعي بالنظر لطبيعة اقتصاد البلاد؟
- لماذا لم تكشف هذه التقارير عن أسباب هذه الوضعية غير المتوازنة وغير المرضية وغير العادلة؟
- لماذا لم تكشف للقارئ عن السبل العلمية والواقعية الكفيلة بتجاوز حالة عدم التوازن هاته؟
- ما المعنى في اختيار واختلاف المدتين الزمنيتين التي اعتمدها معدو التقريرين في صياغتهم لخلاصتهما.
لكوننا كباحثين اقتصاديين فاختيار مدة تحليل ظاهرة معينة من حيث توقيتها الزمني أي الظرفية أو من حيث طول أو قصر مدة التحليل وكذا المؤشرات المعتمدة والأهداف المنتظرة مت التحليل، لا بد لها من تعليل.
لا يجب اختزال ثروة المغرب في ما هو مادي لكون ثروة المغرب تكمن كذلك في المجهودات الفكرية والفنية والثقافية وغيرها من الثروات التي وجب أخذها بعين الاعتبار.
فالفكر هو الجوهر أما المادية فهي النتيجة.
كما أن الفكر فهو متجدد لا حدود له أما الثروة المادية فهي قابلة للاندثار في غياب الفكر و في غياب التدبير العقلاني لها والعبث بها.
وفي هذا السياق حديث طويل يقودنا إلى التقرير الذي أصدره المجلس الأعلى للحسابات والذي ستكون له انعكاسات جد إيجابية وغير منتظرة أو مفاجئة للبعض أي لمن وسوست له نفسه التلاعب بثروة البلاد معتقدا أنها ملكه.
إنها ملك المغاربة كلهم لأنهم في الأصل هم مصدرها ومنتجوها وعرق جبينهم وأفكارهم.
وسيكون لهذا التقرير حول محاسبة تدبير ثروة البلاد، إذا ما تم عرضه على أعضاء البرلمان بغرفتيه، وهذا ما نأمله بل وما يجب القيام به، ومناقشتهم لمضامينه وخلاصاته، أثر جد إيجابي لدى الرأي العام من ناحية تنويره ومن ناحية خصوصا مساءلة الحكومة التي وضع فيها ملك البلاد الثقة في تدبيرها حسن وأفضل تدبير في غياب تام للعبث وعدم المسؤولية بهدف الرقي بالمستوى المعيشي لساكنة هذا البلد واستفادته العادلة من ثرواتها.
د. حبيب عنون
باحث في العلوم الاقتصادية والاجتماعية
التسميات
مغرب