من الضروري تعميق الكتابة المنهجية عموما وتزداد الضرورة عندما يتعلق الأمر بالمجال السياسي الذي يبدو انه الأكثر عرضة لغياب الكتابة المنهجية الجادة وقديما طلب أفلاطون من تلاميذه مزيدا من الإنصات والانتباه عندما وصل الى الحديث في المسألة السياسية. ادعوكم إلى مزيد من الانتباه إننا لا نناقش أمرا هينا إننا نناقش كيف يجب أن يعيش الإنسان ثقالة الموضوع وأهمية النتائج المتعلقة به هي التي تدفعنا إلى المزيد من الحذر والتحوط ولذلك سوف نعمل على الالتزام قدر الإمكان بالمحددات المنهجية. ومفاد القول الذي نسعى إلى دفعه للنقاش نقدمه في شكل ادعاء يكون مصاغا كالآتي:
الادعاء: نحن على قناعة بان العرب قد وصلوا إلى مرحلة ضاقت عندها الإمكانات السياسية ولم يبق إلا ممكنا وحيدا إذا ما كانوا يطمحون إلى المشاركة في صنع المصير الكوني.
هذا الادعاء لنثبته نكون أولا في حاجة الى توضيح العديد من المفاهيم الأساسية ثم ننصرف لاحقا لدفع مجموعة من الاعتراضات المتوقعة لننتهي في الأخير إلى البرهنة المنطقية المدعمة بالحجج الاستقرائية لبيان مدى معقولية الادعاء.
المفاهيم:
العرب: ونقصد بهم الجماعة العربية التي التقت عند وحدة الجغرافيا والتاريخ تحت مقوم اللغة الواحدة والمصير الواحد.
النهاية: لا تحمل هنا على معنى الاكتمال أو التوقف والثبات وإنما تحمل على معنى انحصار الممكنات التي تجعل معنى الفاعلية غير ممكن إلا ضمن توجه وحيد أملته حركة تطور الواقع.
السياسة: ونقصد بها مجموع التصورات النظرية والممارسات العملية التي شكلت الموجه النظري والعملي في قيادة الحياة المدنية العامة عند العرب ولا يختزل الأمر عند السياسي القائم فعلا بل يتعداه إلى المعارض أيضا.
يتحدد الادعاء بعد هذه السلسلة من التحديد المفهومي على النحو الآتي:
إن السياسي العربي الحاكم فعلا والمعارض للحكم كذلك المنظر في اتجاه اليمين أو في اتجاه اليسار أو في الموفق بينهما كلهم لم يبق لهم من السياسة إلا ممكنا وحيدا.
فما هو هذا الممكن الذي ندعي له حيازة المجمل التاريخي الذي عودنا دائما انه مجال ثراء وليس مجال اختزال وما هي الأدلة الممكنة على وجاهة هذا الادعاء؟
قبل الإجابة على هذين السؤالين نكون في حاجة للرد على مجموعة من الاعتراضات.
أولا: اعتراض قد يتهم هذا التصور بأنه تأثر بمقــــولة نـــــهاية التاريخ مما ينفي عليه صفة الإبداع هذا الاعتراض سوف يزول عندما نأتي على شرح الممكن الوحيد المقصود والذي سيكون بلا شك متعارض مع أطروحة فــــوكوياما حول نهاية التاريخ بل قد يتناقض معها عندما نكشف أن الممكن السياسي العربي ومن خلال ما يتأثر به كميتاسياسي سيمثل تجاوزا لهكذا أطروحات.
ثانيا: اعتراض من دعاة الواقعية السياسية ،قد يعترض ممثلو الواقعية السياسية من منطلق أن ممكنهم السياسي هو أيضا الممكن الوحيد ولذلك نحن نلتقي مع رؤيتهم وحقيقة الأمر أن أصحاب الواقعية السياسية الذين يروجون لآرائهم مرة تحت مفهوم الضرورة التاريخية وثانية تحت مفهوم العقلانية وثالثة ضمن سياقات البراغماتية التي هي قاعدة الفعل السياسي هؤلاء مع تجاوز بعض الخلافات الجزئية يعتقدون أنهم في قلب الفعل التاريخي فهم من يصنع السلام الدولي وهم من يجنب بلدانهم المغامرات المتطفلة التي يغيب فيها العقل بل يعتقدون أن من أسباب التراجع عن الفعل التاريخي للعرب تلك الخيارات التي لم تحتكم لمنطق الواقعية.
لا يخفى على الناظر العادي ما عليه هذا الرأي من مغالطات إذ القول بالمشاركة لا يمكن نكرانها ولكن هل هي تتعدى مشاركة العبد المطبق لإرادة سيده.
إن الواقعية السياسية لا تعني الاستقالة عن إدارة الحدث بل تعني الفعل المؤثر فيه فقد تتراجع الأمـــــم في العديد من محطاتها التاريخية عن الفعل المؤثر فتكتفي بالمتاح وفق الممكن دون أن تستــــقيل بل هي تسلم بالواقع دون أن تستسلم تحتفظ بعنصر الكمون وتعد العـــــدة على كل الأصعدة حتى إذا كانت لحظة التجاوز كانت الوثبة الخلاقة المؤثرة في التاريخ والصانعة له في نفس الوقت ويكفي العودة إلى التاريخ القريب أو البعيد حتى ندرك مدى مصداقية هذا الرأي عمل الألمان بالواقعية الايجـــابية فاحتفظوا بالكمون الخلاق واستفادت فرنسا من القانون ذاته فجنبـــــت مدينة باريس الجميلة من الدمار ولكنها سرعان ما استعادت الفاعلية والقــــانون نفسه وظفته الصين ولا تزال إلى أن وصلت إلى تصــــدر العالم وهو ما استجابت له الهند أيضا فلماذا يصر العرب أن يكونوا ضد القوانين المحددة لمصائر الشعوب والأمم.
كنا سنؤيد هذه الواقعية السياسية لو استغلها أصحابها إلى تحويل الجهد في البناء الداخلي ودعم إمكانيات القوة داخل الدولة الوطنية أما وان الواقعية لم تحقق إلا الاستسلام مع خضوع مطلق لعولمة هي في جوهرها صهينة للعالم (انظر كتابنا حقيقة العولمة الصادر في دمشق سنة 2003).
يكون الأمر والحالة تلك مدعاة إلى التحصر عما آل إليه معنى القدرية السياسية في الواقع العربي.
ثالثا: اعتراض قد ينشئ من جهة القوى الممانعة والتي تمارس الممانعة بأشكال المقاومة الحية أو من خلال الممانعة المدنية والثقافية وفحوى اعتراض هؤلاء أنهم يصنعون التاريخ الحي فعلا فهم وان كانوا في الأغلب خارج الدائرة السياسية الرسمية إلا القليل منهم فإنهم مع ذلك من يوجه الأحداث وهو ما يجعل فكرة استقالتهم من التاريخ فكرة مناقضة للحقيقة نحن أيضا لا ننكر على هؤلاء جهدهم المقاوم ولكن ادعاء الفعل التاريخي والمشاركة في المصير الكوني هو ما نقصده وهو ما لا يمكن أن تثبته آراء هؤلاء ولا جهودهم فالمشاركة في المصير الكوني يحتاج إلى خلفيات نظرية موجهة للعمل حتى لا يتحول الفعل إلى ردات فعل كما يحتاج إلى استراتيجيات ميدانية هي جوهر الواقعية السياسية في شكلها الموجب.
بعد دفع هذه الاعتراضات سوف ننصرف الآن الى بيان الدواعي التي جعلت العرب على هامش التاريخ السياسي ولماذا تأخر الوعي بهذا المشكل رغم أهميته ثم نثني بتحليل الأطروحات السياسية على تنوع مشاربها وكيف أصبحت مجتمعة جزء من المشكل في الوقت الذي تدعي أنها الحل لتكون النهاية مع الممكن البديل مع بيان مدى معقوليته.
احمد العربي المشرقي
' باحث من تونس مقيم بباريس
التسميات
عرب