فلسطين التي تسكن القلب والدم والخاطر.. عائد إلى حيفا لقطف برتقال يافا الحزين في قلب العروبة الجريح

الكتابة عن فلسطين التي في الوجدان والقلب والفكر والاقتراب من تخومها مسألة صعبة جداً، تهون دونها كتابات كثيرة، فهي حالة تعاش بالكامل، وتتشربها الروح قطرة فقطرة، وتجري مع النفس اليومي لكلّ فرد منا عبر مسيرة حياته، وهي ليست موضوعا للإنشاء المثير للشفقة، ولا للصراخ الشعاراتي الممل، ولا من أجل التباكي على ما جرى، أو اللوم وتقريع الذات، بل كما قلت حالة مختلفة ينبغي للمرء أن يفكر ملياً قبل تسطير جمله بحقها، ونشرها على الناس، ثم النوم بهدوء مريع، وكأنّ المرء قد أدى واجبه واستراح، فيما فلسطين نفسها تئن ولا تنام، وأهلها بين قتيل وجريح ومهجّر ومعذب وسجين وما بدلوا تبديلا.
لا أعتقد أن أسماعنا قد طرقتها كلمة أكثر من ' فلسطين' طيلة الستين عاماً التي مضت على الأقل، ولا أظن أن ثمة بيتاً من الرباط إلى البحرين بأطفاله وشيوخه لا يعرف فلسطين، أو لا يعلق صورة للقدس، أو لا ينتفض على الأقل كلما سمع شيئاً من أسى أهلها وما يتعرضون له في مسلسل دموي يومي.
وأن تكون فلسطينياً فهذا لا يعني على الإطلاق أن تكون مولوداً هناك أو تنتمي إلى أهل البلاد قبلياً، فالانتماء الفكري هو الأساس وليس انتماء الدم، فكم من فلسطيني لا يمت للقضية وأهلها بصلة، بل يعمل ضدها، وكم من سوداني أو إماراتي أو أردني أو حتى من جنوب أفريقيا والسلفادور ينتمي لفلسطين فكراً وقلباً ووجداناً أكثر من بعض أهلها، فقد لا يستوي الدم والفكر أبداً.
تلك مسألة كان الأديب الراحل غسان كنفاني واضحاً بشأنها في روايته ' عائد إلى حيفا' إذ أن الطفل الفلسطيني الذي نسيه أهله خلال نكبة 48 أصبح ينتمي قلباً وقالباً إلى الإسرائيليين، ولم تشفع دماؤه الفلسطينية أن تغير موقفه ليعود إلى أهله.
خلال السنوات الكثيرة التي انقضت تجرعنا العديد من الكتابات الأدبية التي تتحدث عن فلسطين سواء من التي كتبها أدباء فلسطينيون في وطنهم المحتل أو الشتات أو من الأدباء العرب والعالميين، وثمة الكثير من الغثاء والإنشاء والركاكة باسم القضية، ولهذا فإن تأثير بعض الكتابات كان معدوماً، وبعضها كان آنياً يثير المشاعر فقط ثم سرعان ما يزول، وبعضها كان مضللاً أي يقدم صورة غير حقيقية عن الفلسطيني برفعه إلى السماوات وجعله كائنا شبه مقدس لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وربما لكلّ هذا رفع الراحل درويش صوته عالياً: ارحمونا من كل هذا الحب.
أعتقد أنه آن الأوان لقراءة الأدب الذي كتب عن فلسطين خلال الستين عاما الماضية على الأقل بعين متفحصة وناقدة غير التي تعودنا عليها، لتنقية القمح من الزوان، وهذه ليست مسؤولية النقاد الفلسطينيين وحدهم بل الكتاب العرب أيضاً، وهناك مسألة أخرى في ضرورة الانتباه إلى أولئك الأدباء العالميين الذين ينتمون لفلسطين قضية وشعباً من أجل شكرهم على الأقل، واستمرار التواصل معهم لتشكيل جبهة ثقافية حقيقية معهم، فاللعبة الأكيدة التي انطوت على الكثيرين خلال السنوات القريبة الماضية هي تحجيم هذه القضية العالمية لتصبح قضية خاصة بالفلسطينيين عليهم التعامل معها لوحدهم حتى بعيداً عن بعدهم العربي الاستراتيجي، وشطب كلمات مثل ' المصير المشترك' و' قلب العروبة الجريح' و' نبض الأمة ' من المؤتمرات والخطط والثقافات المنتشرة.
ذات طفولة قرأنا قصة عن ' برتقال يافا الحزين' وظللت أفكر طويلاً منذ ذلك الحين بأنّ هناك بيارات جميلة للبرتقال اغتصبها المحتلون من بلد يشبه الجنة، ولكني اليوم أعتقد أن المسألة أكبر بكثير مما تم تصويره بكل سذاجة أحياناً، فليس المطلوب فقط طرد الفلسطينيين من أرضهم بشتى الطرق بل تغيير تاريخ كامل، وتأسيس جغرافيا أخرى، وتدبيج حكاية مغايرة عن حضارة متطورة بأعراق متميزة يجب على العالم أن يدعمها ويصدق روايتها الخادعة والمضللة، فهل من مستيقظ يرى الأمر على حقيقته ويعيد حساباته من جديد.
يحيى القيسي
أحدث أقدم

نموذج الاتصال