الكتاب أسياد الكلمة والمشكّلون لوعي المجتمع والراؤون لما لا يراه أحد والسامعون بما لا يسمع به أحد

' لغة هذه الأراضي وأقلامها'، هكذا وصف رئيس الوزراء التركي أردوغان الكتّاب خلال اجتماع له مع نحو خمسين كاتبا تركيا مطلع هذا الأسبوع. وزاد أردوغان بأن أغدق أوصافاً كثيرة على الكتاب فوصفهم بأنهم أسياد الكلمة والمشكّلون لوعي المجتمع، والراؤون لما لا يراه أحد والسامعون بما لا يسمع به أحد، والقائلون لما لا يقدر على قوله أحد!. وأجهز علينا أخيراً بقوله ' لا نريد نوعاً واحداً من البشر، ولا نحاول أنْ نجعل الجميع يفكرون مثلنا'!.
ومع حفظ المسافات بين الرئيسين، والفارق في درجة حرارة الاجتماعين، فإن اجتماع أردوغان الطيب الذكر مع الكتّاب الأتراك الخمسين ذكّرني بما قرأته عن الاجتماع سيىء الذكر بالنسبة لرئيس الوزراء الكندي، ستيفن هاربر، مع خمسين ـ أيضا؟ ـ من المبدعين الكنديين في العام 2007 حيث تم تقديم المحتفى بهم بما يشبه الشفقة، وكان رئيس الوزراء الكندي هاربر ينتظر انقضاء هذه المهمة على أحرّ من الجمر، لم ينظر في وجوه المكرّمين ولم يلقِ كلمة بل ظلّ يقلّب أوراقاً أمامه إلى أن انتهى التكريم في خمس دقائق، وتفرّق جمع المبدعين.
نقول الاجتماع سيىء الذكر لأن يان مارتل، أحد الكتّاب المكرّمين، رأى أن التعامل مع المبدعين بهذا الاستخفاف لا يليق برئيس وزرائه، وأن ذلك يسيء إلى الرئيس أولاً قبل أن يسيء إلى المكرّمين وأنه يسيء إلى بلدهما قبل الاثنين، ويعكس قلة احترام السياسيين لمبدعي الأمة. أحسّ الكاتب الجذّاب، الاسباني الأصل، إذن بالضيق من تعامل الرئيس، وغضب غضبة، أين منها غضبة بني تميم التي ' حسِبتَ الناس كلهم غِضابا' إن طالتك! فلم يجمط / يبلع الإهانة وينسى الموضوع، ولم يكتفِ بلعن سنسفيل أجداد رئيس وزرائه في جلسات النميمة الخاصة بالكتّاب كما نعرفها عندنا، بل حوّل انمغاصه / انزعاجه من الموقف برمّته إلى حملة تثقيفية للرئيس وعده فيها أن يرسل إليه كتاباً كل أسبوعين طوال احتفاظه بمنصبه، مرفقاً برسالة تلخِّص مضمون الكتاب.
الروائي الأربعينيّ ما زال منذ ثلاث سنوات يرسل الكتب بانتظام عسكريّ صارم، مرفقة برسائل لا تقلّ جمالا عن الكتب المنتقاة، تضيء على الكتاب بطريقة فاتنة لا يملك من يقرأها إلا أن يتحرقص شوقاً لقراءة الكتاب. ثم جمع مارتل رسائله ونشرها في كتاب عنوانه ' ماذا يقرأ ستيفن هاربر؟' وأنشأ موقعاً انترنتياً ينشر فيه رسائله وعناوين الكتب التي يرسلها.
ما ردة فعل رئيس الوزراء الكندي الذي يبدو أن أمه لم توجه ما يكفي من الدعوات إلى الله ليكفيه أولاد الحرام؟ خمسة ردود هيّابة، موحّدة تقريباً، أرسلها مكتب الرئيس إلى الروائي تؤكد استلام الكتاب وتشكره باقتضاب.
لقّن الكاتب الرئيسَ - هكذا يأمل ونأمل - درساً في أخلاقيات التعامل مع المبدعين، بطريقة وإن كانت صاخبة، رغم أنه ليس بحاجة إلى أي ضجة إعلامية فهو أشهر من رئيس وزرائه وحائز على البوكر ومترجم إلى عشرات اللغات عالميا، إلا أنها خلاقة ومفيدة وخفيفة الظل - بالنسبة إلى الجميع على الأقل باستثناء هاربر.
ورغم الفارق الواضح بين حادثتي أردوغان وهاربر، فكلاهما يثير الشجن في نفوسنا.
حادثة هاربر تثير الشجن في نفوسنا حين نرى كيف كان إبداع مارتل آلية تفكير، لا نتاجاً منقطعا عن سياقه، فاعتراضه على الموقف كان بذات الإبداع الذي كتب به روايته ' حياة باي' ونزعل على أنفسنا حين نرى التعامل الجديّ للمثقف مع نفسه واحترامه لما يمثّله ولمن يمثّلهم.
وأما حادثة أردوغان فتثير الغيرة والحسد الشرعيين في نفوسنا، من مبادرته إلى دعوة الكتاب الخمسين ومن الطريقة التي تعامل معهم بها ومن هذه الصفات الشعرية التي وصفهم بها وأخيراً من دعوته إلى التنوع بغضّ النظر عن نسبة ما سيتحقّق منها بالفعل.
نخرج من الحادثتين بكثير من الندوب في قلوبنا على ما آل الحال إليه، حال مثقفينا وحال رؤسائنا، ونتمتم في سرّنا: ' هيك مضبطة بدها هيك ختم'.
فيروز التميمي - روائية من الأردن
أحدث أقدم

نموذج الاتصال