في منتصف تسعينيات القرن الماضي دخل المغرب تجربة القروض الصغرى لتحسين ظروف عيش الفئات الفقيرة والهشة اجتماعيا. تجربة ستعرف بعد سنوات من النجاح مرحلة أزمة بدأت بوادرها في الظهور أواخر 2007.
عدد من الفاعلين في القطاع يرجعون أسباب الأزمة إلى حدوث انحرافات في فلسفة السلفات الصغرى و روحها و دخول مؤسسات القروض في منافسة شرسة لجلب الزبناء، مما أدى إلى انتشار موجة الاقتراض المتعدد، الذي أضر كثيرا بمردودية هذه المؤسسات وصورتها، كما حول حياة المستفيدين إلى جحيم يومي أجبر العديدين منهم على بيع أثاث منازلهم أو الفرار أو حتى الانتحار هربا من هذا الجحيم، إضافة أيضا إلى وجود اختلالات عديدة في الحكامة و التسيير و المراقبة داخل مؤسسات القروض الصغرى، كان من نتائجها ارتفاع نسبة الديون المتأخرة بشكل صاروخي في مدة وجيزة. و إذا كان قطاع السلفات الصغرى لم يتعاف بعد من أزمته بعد مرور أكثر من عام عليها، وتواجهه عدة تحديات، فإن الرهان الأكبر بالنسبة إليه هو الفقراء أنفسهم. ويبقى السؤال الإشكال الذي سيظل يواجه دوما هو: هل تعمل القروض الصغرى فعلا على الحد من وطأة الفقر و تحسن الظروف المعيشية للفئات الفقيرة بشكل دائم؟
اعتادت فاطمة أن تتجه صباح كل اثنين إلى مؤسسة زاكورة الشعبي للقروض الصغرى قرب شارع الزيراوي بالدار البيضاء. منذ أربع سنوات وهي تقوم بالمشوار نفسه لتسديد ما بذمتها من قروض. «هذه هي المرة السادسة التي أقترض فيها» تقول هذه البائعة المتجولة. «وهل حسّنت القروض وضعيتك؟» نسألها، فتجيب ببساطة «نوعا ما»، قبل أن تستدرك «صراحة، لا أعرف. لا أشعر بتحسن ملموس. من يعيش مثل وضعي لا يمكنه أن يحس بذلك». لماذا؟ تجيب فاطمة «أنا لدي بنت ما تزال تدرس والمعيشة ولاّت بحال العافية وتجارتي على قد الحال و الأموال التي أقترضها منهم تكفيني بالكاد.إذ أوزعها بين مصاريف الحياة وديوني و«تحريك» تجارتي. أي تغيير إذن يمكن أن يحدث!؟». رغم ذلك لا تستطيع هذه السيدة الاستغناء عن القروض الصغرى. بدونها سيكون السقوط أكيدا.
شبح الفقر:
حكاية فاطمة لا تختلف كثيرا عن حكايات أخرى عديدة. قد لا تتشابه التفاصيل، لكن المعاناة واحدة. الكل جربوا وصفة القروض الصغرى دون أن تطرد عنهم شبح الفقر، الذي ظل يلازمهم كما الظل، رغم أن هذه القروض تقدم أحيانا ك»رافعة للتنمية» أو «وصفة سحرية» لمحاربة الفقر. هل هي مفارقة إذن أم أن هذه الوصفة لا تستغل بشكل فعال؟.
في شتنبر1983أسس محمد يونس، الحائز على جائزة نوبل للسلام عام 2006، بنك غرامين (بنك القرى) لمساعدة الفقراء على خلق مشاريع مدرة للدخل.قبل ذلك بسنوات توصل هذا الاقتصادي البنغالي إلى أن بإمكان الفقراء أيضا أن يديروا مشاريعهم الخاصة، وأن ما يحتاجونه فقط هو دعمهم لبدء هذه المشاريع، فشرع في منحهم قروضا صغرى جماعية. بعد 30 سنة عن هذه التجربة، التي صارت عالمية و استوردتها العديد من الدول، من بينها المغرب، ما تزال القروض الصغرى تثير النقاش بين من يعتقد بأنها وسيلة فعالة لمحاربة الفقر، و من يشكك في ذلك ويرى بأنها لم تجتث الجذور الحقيقية للفقر، و بالتالي كان تأثيرها ضعيفا أو منعدما. ما هي حقيقة هذه القروض إذن؟ وهل هي فعلا معجزة كما يقول مؤيدوها أم أنها كارثة حسب المعارضين؟ تتساءل إستر دوفلو الأستاذة بمعهد التكنولوجيا ماساتشوستس. قبل أن تجيب «للأسف، رغم أهمية هذا النقاش ليست هناك لحد الآن دراسة دقيقة من هذا الجانب أو ذاك. فمؤيدو القروض الصغرى و معارضوها يتصارعون بالحكايات و بالدراسات التي يصعب تفسيرها لأنها تقارن بين التفاح والبرتقال، يعني بين المقترضين وغير المقترضين. وكل معسكر ظل ينتقد زمنا طويلا المعطيات الناقصة للمعسكر الآخر».
في المغرب ما يزال مثل هذا النقاش حول جدوى و فعالية القروض الصغرى محدودا. كما أن أثر القروض الصغرى ما يزال غير واضح. إذ «منذ 1993 إلى حدود الآن لا نعرف بالتحديد عدد الذين أخرجتهم القروض الصغرى من دائرة الفقر وحسنت أوضاعهم الاجتماعية»، يقول الكاتب العام لجمعية إنماء عبد العزيز الرماني، مرجعا ذلك إلى قلة المؤشرات و دراسات الأثر بسبب «مشكل التمويل»، في حين يرى أحد الأطر العاملة في القروض الصغرى(فضل عدم ذكر اسمه) أن التجربة المغربية ما تزال تجربة فتية، رغم كل شيء ولا يمكن الحكم عليها»، مضيفا «نحن نتحدث كثيرا عن 1993 كبداية للقروض الصغرى في المغرب، في حين أن الانطلاقة الفعلية لم تكن إلا بعد ذلك بسنوات. أي أن عمر التجربة المغربية لا يتجاوز عشر سنوات، وهي مدة ليست كافية لإصدار أحكام بشأنها».
قلة دراسات الأثر، التي أنجزت في المغرب بخصوص التأثيرات، التي تتركها السلفات الصغرى في حياة المستفيدين منها وظروف عيشهم، اقتصاديا واجتماعيا (الدخل، السكن، التمدرس، الصحة...) تجعل من الصعب معرفة ما إذا كانت الأهداف الحقيقية للسلفات الصغرى، أي محاربة الفقر وتحسين شروط عيش الفئات المهمشة، قد تحققت فعلا على أرض الواقع، و ما إذا كانت القروض الممنوحة في مستوى انتظارات المستفيدين و احتياجاتهم الحقيقية. و يبقى كل ما تفعله مؤسسات القروض الصغرى هو الاقتصار على نتائج أدائها المالي بقياس معدل الديون المتأخرة و نسبة استرداد القروض و تحديد عدد المقترضين وسرد حكايات منتقاة عن تجارب ناجحة لزبناء استلفوا من هذه المؤسسات... كمؤشرات على نجاحها ووصولها إلى الأهداف المسطرة، دون الاهتمام بالشق الآخر من عملية الاقتراض، أي الأداء الاجتماعي، الذي يحدد مدى تحسن شروط حياة المستفيدين وأسرهم وتلبية حاجياتهم الأساسية عبر منحهم قروضا تتلاءم وهذه الحاجيات و كذا تقليص تعرضهم للمخاطر، إضافة إلى مدى توسيع نطاق القروض لتصل إلى الفئات الاجتماعية الأكثر تهميشا واستبعادا. إن «ما يثير اهتمام مؤسسات القروض الصغرى هو التركيز فقط على النقاط التي تجعلها متميزة مثل نسبة استرداد القروض و حقيبة المخاطر وعدد الزبناء من أجل البحث عن الجهات الممولة، فيما الأمور الأخرى تظل ثانوية» يقول مدير وكالة للقروض الصغرى(فضل هو الآخر عدم ذكر اسمه)، مضيفا أنه «منذ سنة 2000 حتى الآن لم تنجز دراسات حقيقية للوقوف على نقاط ضعف قطاع القروض الصغرى».
القروض تنحرف:
في أواخرسنة 2008 أعلنت الفدرالية الوطنية لجمعيات القروض الصغرى أن عدد المستفيدين من السلفات الصغرى بلغ حوالي مليون ومائتين وأربعين زبونا، وأن مبلغ القروض الممنوحة بلغ أزيد من خمسة مليارات درهم، في غياب مؤشرات حول وضعيات هؤلاء المستفيدين: كم نسبة الذين تحسنت مداخيلهم وشروط حياتهم على المستوى الفردي والأسري؟ وكم منهم ظلت مشاريعه مستديمة دون تعثر؟ وكم في المقابل نسبة الذين فشلت مشاريعهم أو لم تغير القروض الصغرى وضعياتهم الاجتماعية أو زادتها سوءا؟...
«هناك فعلا أشخاص فتحوا محلات للتجارة والخياطة وهناك من قام بأنشطة مدرة للدخل» يقول الرماني، قبل أن يتساءل «لكن كم عددهم بالتحديد؟». نفس السؤال يطرح أيضا بخصوص الذين لم تؤثر فيهم السلفات الصغرى أو زادتهم سوءا، خصوصا أن «هناك انحرافا وقع في أهداف القروض الصغرى» يقول مدير الوكالة، موضحا أن الانحراف حدث بالأساس في سياسة القروض و أهدافها، إذ «بعدما كان هدفها في البدء اجتماعيا محضا، أي مساعدة الفقراء على الخروج من الفقر، صار الهدف فيما بعد تجاريا، أي أصبحت جمعيات القروض الصغرى تنظر إلى هؤلاء الفقراء كزبائن فقط يضخون الأرباح في صناديقها، رغم أن الوضع القانوني لهذه الجمعياب يشير إلى أن هدفها ليس ربحيا».
الإطار سالف الذكر يعترف هو الآخر بوجود خلل في سياسة القروض الصغرى، موضحا بأن «هدف القروض الصغرى هو محاربة الفقر يبدو كشعار جميلا ، لكن الواقع شيء آخر»، قبل أن يضيف أن»جمعيات القروض الصغرى لا تتحمل وحدها المسؤولية في ذلك، كما لا تتحمل مشاكل المجتمع بأكمله، إذ هي مجرد آلية لتحسين وضعية الفقراء و لا يمكنها أن تحل محل الدولة»، مشيرا إلى أن المسؤولية تتحملها أيضا الدولة، التي رفعت يديها عن الفئات المحرومة، إضافة إلى الزبناء، الذين لا يستغلون القروض الممنوحة لهم استغلالا مثمرا، و إن تساءل في الآن نفسه «كيف يمكن أن يستثمروها بشكل جيد و أغلبهم أميون يفتقرون إلى المهارة والخبرة!».
تقرير: الوضع لا يطاق بقطاع القروض الصغرى بالمغرب:
«أصبحت الوضعية لا تطاق». بهذه الكلمات وصف التقرير، الذي أنجزته قبل عام شركة التمويل الدولية، التابعة لمجموعة البنك الدولي، وضعية قطاع القروض الصغرى بالمغرب. أحد تجليات هذه الأزمة، التي اندلعت في شتنبر2008، يتمثل أساسا في النمو الصاروخي لمعدل الديون المتأخرة. إذ في ظرف عامين فقط ارتفعت نسبة هذه الديون من 1.1 في المائة سنة 2007 إلى 7 في المائة سنة 2009. وكان المغرب قد حافظ عدة سنوات على محفظة مخاطر (أقل من 30 يوما) تحت عتبة 1 في المائة، قبل أن تشرع في الارتفاع بداية من 2007. كيف وقع التحول بهذا الشكل السريع؟ ولماذا تدهورت وضعية قطاع السلفات الصغرى، الذي كان نموذجا مثاليا في أفريقيا و العالم العربي، إلى درجة وصفها ب«اللا تطاق»؟.
أسباب الأزمة:
في «أمانيوز»-الرسالة الإخبارية الشهرية التي تصدرها جمعية الأمانة- عدد 190، أرجع فؤاد عبد المومني، المدير العام السابق للأمانة، تدهور وضعية القطاع إلى عدة عوامل، أهمها تعدد مؤسسات القروض الصغرى، (التي كان عددها يناهز 13 مؤسسة قبل أن يصير 11 فيما بعد) وانفتاحها على جميع الزبناء، ورفعها قيمة القروض الممنوحة، وكذا توسيع شبكاتها وانفتاحها أيضا على عدة مخاطر بدون تحسين منتوجاتها وتقوية حكامتها و نظم مراقبتها الداخلية و المعلوماتية. ويضيف عبد المومني عوامل أخرى ساهمت بشكل غير مباشر في ظهور الأزمة، منها على الخصوص إلباس القطاع لبوسا خارقا وتضخيم قدرته على امتصاص الفقر، إضافة إلى عدم كفاءة النظام القانوني، و تجنب السلطات المحلية الدخول في مواجهة مع الفئات الاجتماعية الهشة، مما ساهم في شيوع ثقافة اللاعقاب تجاه المتهربين من تسديد الديون.
وكان نور الدين عيوش، مؤسس زاكورة و رئيسها السابق، قد حذر في كتابه «زاكورة..حكاية تحدّ» من خطر «التنافس الوحشي» بين مؤسسات القروض الصغرى على مستقبل القطاع، الذي راحت ضحيته مؤسسة زاكورة نفسها. وأوضح أن التسابق على المركز الأول بين هذه المؤسسات أدى إلى منح قروض لمشاريع غير مدروسة بشكل كاف، و إلى قلة متابعة هذه المشاريع على أرض الواقع. كما أدى كذلك، «وهو الأخطر»، حسب عيوش، إلى شيوع موجة الاقتراض من أكثر من مؤسسة، أو ما يصطلح عليه ب«الاقتراض المتعدد» أو «المتداخل»، الذي كان من العوامل الرئيسة في تقويض قدرة الزبناء على السداد، مما أثر بشكل معين في مردودية مؤسسات السلفات الصغرى و استمراريتها.
الخبرة الدولية في مواجهة الأزمة:
الأزمة التي اجتاحت القطاع دفعت بمؤسسات السلفات الصغرى إلى الاستعانة بالخبرة الدولية لتشريح الوضعية وتحديد الإجراءات العاجلة لإنقاذ القطاع. و كانت شركة التمويل الدولية إحدى الجهات التي تم اللجوء إليها. إذ كلفت هذه الشركة مؤسسة «أوليفر وايمن» الاستشارية بإجراء دراسة للقطاع لمساعدته على وضع مخطط عملي لمواجهة الأزمة. وقد ركزت الدراسة على كبريات مؤسسات القروض الصغرى(الأمانة، زاكورة، فونديب، والبنك الشعبي للقروض الصغرى) مكتفية بالإشارة إليها برموز معينة حفاظا على سرية وضعيتها.
تقرير أوليفر وأيمن:
منذ البدء، يشير التقرير إلى أن المليون مستفيد من القروض الصغرى يتضمن نسبة غير محددة ممن استفادوا من القروض المتعددة أو المتداخلة. وكانت نفس الملاحظة قد أثارها نور الدين عيوش، حين أوضح في كتابه السابق أن هناك جمعيات لديها 55 في المائة من زبنائها يقترضون من جمعيات أخرى. و فسر مصدر مطلع أن «حصيلة المليون زبون، التي تجاوز عتبتها قطاع القروض الصغرى منذ 2006، انبنت على أساس إحصاء زبائن كل مؤسسات القروض الصغرى، في حين كان بينهم من يقترض من ثلاث أو أربع مؤسسات أخرى بشكل متواز».
كما لاحظ التقرير أيضا أن حقيبة المخاطر عرفت نموا سريعا لامس الحدود القصوى مقارنة بدول أخرى تعيش أزمة مماثلة مثل بوليفيا، قبل أن يستخلص أن وضعية قطاع القروض الصغرى أصبحت فعلا لا تطاق.
استغرق إعداد التقرير ثلاثة أسابيع لطابعه الاستعجالي وخلص إلى أن مشاكل الحكامة والتدبير لعبت دورا خطيرا في الأزمة وشكلت نواة رئيسة في علاقتها بعوامل الأزمة الأخرى مثل ميل مؤسسات الصغرى نحو منتوجات تتميز بالخطورة (القروض الفردية، طويلة الأمد، وذات المبالغ المرافعة) وارتفاع معدل الاقتراض مقارنة بمعدل الدخل وتسارع وتيرة الاقتراض المتعدد...
وقد اقترح التقرير للخروج من نفق الأزمة عدة توصيات، منها ما هو استعجالي مثل التنسيق بين مؤسسات القروض الصغرى ومراقبة الاقتراض المتعدد وتحسين الحكامة والمراقبة الداخلية، ومنها ما هو ذو مدى متوسط وطويل مثل تأسيس مكتب مغربي للسلف وتطوير تدبير المخاطر.
ورغم مرور عام على إنجاز هذا التقرير، و أكثر من سنة على الأزمة، ما يزال قطاع القروض الصغرى لم يتعاف بعد. كما أنه قد يتعرض مستقبلا لأزمات أخرى مماثلة في غياب تفعيل حقيقي للعديد من التوصيات الداعية إلى الخروج من مستنقع الأزمة، وفي غياب تكتل حقيقي بين مؤسسات السلفات الصغرى، وهو ما يثير علامة استفهام كبرى حول فعالية الفدرالية الوطنية لجمعيات القروض الصغرى ودورها في توحيد الرؤى ورأب الخلافات بين المؤسسات الصغرى والكبرى. كما أن تطور القطاع يظل أيضا رهين إعادة النظر في القانون المنظم له لمواكبة التطورات التي عرفتها القروض الصغرى في الآونة الأخيرة، وهو ما يضع الدولة أمام مسؤوليتها تجاه القطاع وتنظيمه.
التسميات
مغرب