خلايا حزب الله.. دعم للفلسطينيين أم إرهاب لبعض الأنظمة العربية السنية

هناك شبه اجماع على أن القضاء المصري أكثر استقلالاً عن السلطات التنفيذية مما هو عليه الحال في البلدان العربية الأخرى. ورغم كل محاولات تدجينه من قبل النظم المصرية المتعاقبة ظل القضاء المصري يحتفظ بمسافة ما عن الحكم وبشيء من الاستقلالية التي ورثها من تاريخه العريق. لكن هذا هو القضاء المدني وليس القضاء العسكري أو الأمني الذي ولد من رحم قانون الطوارئ سيئ الصيت. أمام هذا القضاء الأخير حوكمت المجموعة المسماة 'خلية حزب الله'. ومن محكمة الطوارئ هذه صدرت أحكام شديدة القسوة ضد المتهمين. وعكس القضاء المدني لا مجال لرد أحكام هذه المحكمة. إنها أحكام مبرمة وغير قابلة للاستئناف.
اللافت في الأمر هو سرعة بت القضاء العسكري المصري بقضية 'الخلية' رغم كثرة عدد المتهمين فيها وتنوع جنسياتهم (يبلغ عددهم نحو 26 شخصاً). فهي بالكاد استغرقت عاماً واحداً رغم أن التنازع على شقة أمام القضاء المدني المصري قد يستغرق العمر كله، لكن اللافت أكثر هو تزامنها مع حملة أمريكية إسرائيلية منسقة ضد ما يسمى 'صواريخ حزب الله'. هل لهذا التزامن دلالة؟ لا أعرف. المؤكد أن مناخ 'الاعتدال العربي' يميل، منذ وقت، إلى التصعيد ضد إيران. مرة ضد برنامجها النووي ومرة أخرى ضد احتلالها جزراً عربية تابعة للإمارات، ولكن حتى لو أن أحكام محكمة الطوارئ المصرية كانت منفصلة، فعلاً، عن مناخ التصعيد الدولي والاقليمي ضد إيران (وحلفائها بالتالي) فمن الصعب عدم رؤية رابط ما بين الأمرين.
دعونا نعود إلى أصل الحكاية.
قضية 'خلية' حزب الله في مصر لم تكن وليدة لحظة الاعلان عنها. المصريون يعرفون انها حدثت في كانون الاول (ديسمبر)، وثمة من يقول في تشرين الثاني (نوفمبر) من العام 2008. يعرفون، كذلك، أنها ليست خلية مرسلة للعمل في الداخل المصري بل لها علاقة مباشرة بحركة 'حماس' في غزة. المصريون يعرفون، أكثر من ذلك، أن ليس لحزب الله تاريخ عمل عسكري على الساحات العربية. لا أحد يذكر عملية لحزب الله وقعت خارج الأراضي اللبنانية، ربما باستثناء عملية اصطياد أحد رجالات الموساد الذي تبين في ما بعد أنه كان عميلاً مزدوجاً أو شيئاً من هذا القبيل. لست، هنا، في معرض الدفاع عن حزب الله وسجله فهو يتوافر على ناطقين رسميين وغير رسميين يتولون هذه المهمة بكفاءة في معظم الأحيان. لكن السؤال الذي يطرحه المراقبون المصريون والعرب حول الموضوع الذي صار موضع تجاذب كبير بين القاهرة وحزب الله هو: لماذا أثيرت القضية على النحو الدرامي الذي أثيرت فيه؟
هناك، على ما يبدو، أكثر من سبب. فالقاهرة الرسمية لم تنس الاحراج الذي سببه لها حزب الله في قضية المعابر مع غزة. كانت مخاطبة حسن نصر الله للشارع المصري وحضه على التحرك لنجدة غزة عملاً محرجاً جداً للنظام المصري وربما جديداً، أيضاً، في الخطاب السياسي العربي. كلام المعارضات العربية المناوئة للسياسات المصرية لا يصل الى الشارع المصري، بل ان كلام المعارضة المصرية نفسها لا يجد له منفذاً الى الجمهرة الواسعة من الشعب المصري بسبب إحكام الطوق، رسمياً، على المنابر الاعلامية التي يتابعها المصريون. حسن نصر الله وجد له منبراً كبيراً هو 'الجزيرة' فضلاً، بطبيعة الحال، عن قناته 'المنار' (وقنوات 'الممانعة'). كما أن كلام حسن نصر الله ليس أي كلام. فهو كلام يصدر من رجل له (رغم حملة التشويه التي قامت بها ماكينة الاعلام العربي 'المعتدل') احترام خاص عند الجمهور العربي خصوصاً بعد تمكنه من تمريغ أنف اسرائيل في الوحل وقصف العمق الاسرائيلي الذي لم تصله الصواريخ العربية قط. تصوير الاعلام المصري الرسمي، وحليفه العربي 'المعتدل'، 'خلية' حزب الله على أنها عمل أمني داخل مصر كان يرمي الى اثارة الوطنية المصرية التي لطالما حاول النظام المصري، الساداتي الامتداد، استثارتها في وجه الاعتراضات العربية على سياساته. نتذكر مقولة السادات الشهيرة عن انتقاد العرب لخطوته المنفردة مع اسرائيل: إنهم يشتمون مصر! ثم التذكير الممل بالتضحيات المصرية في سبيل القضية الفلسطينية كأن مصر لم تكن في صراع وطني (مصري، محلي) مع اسرائيل، تمليه الاعتبارات الجيوسياسية والسيطرة على المجال الحيوي، قبل أن يكون قومياً عربياً.
البعض يرى أن النظام المصري أراد أن يضرب، بواسطة 'الخلية'، أكثر من عصفور بحجر واحد. فإلى جانب حشر'حزب الله'، في الزاوية وتصوير حسن نصرالله كرجل يسعى الى تقويض الاستقرار في مصر ونشر المذهب الشيعي واظهاره كأداة إيرانية في المنطقة، هناك جذر داخلي لهذه القضية. فالاحتقان الشعبي المصري وصل الى حد غير مسبوق. ولا حلول رسمية للمشاكل المعيشية التي تثقل كاهل المصريين. وبإثارة قضية تتعلق بأمن مصر وسيادتها يحاول النظام المصري ايجاد منفذ، ولو مؤقت، لتنفيس احتقان يزداد قوة وخطورة كل يوم (تذكروا الأزمة المفتعلة مع الجزائر على خلفية مباراة الخرطوم).
ولكن هل تم له ذلك؟
لا أظن. فقد تبين للرأي العام المصري، من خلال سير قضية 'الخلية'، أن لا أهداف مصرية كان يخطط المتهمون لضربها. فلم يعترف أي منهم بالتخطيط للقيام بأعمال ارهابية على الساحة المصرية. لا ضد سفن في قناة السويس ولا ضد سياح أجانب ولا ضد سفارات أو مصالح غربية، بل أكدوا، في جلسات المحكمة، أنهم لا يريدون الإساءة إلى مصر ولا تهديد استقرارها، بل دعم المقاومة الفلسطينية في غزة في مواجهة اسرائيل.
طبعا لن يقبل الادعاء الرسمي المصري مثل هذا الكلام، لأن من شأنه أن يظهر المتهمـــــين بصــــورة أبطـــال ووطنيين وربما أدى الأمر إلى تخفيف الاحكام عنهم سواء بالخجل من القيام بمحاكمة لمناضلين عرب ومصريين نيابة عن اسرائيل أو تحت ضغط الرأي العام، لذلك كان اصرار الادعاء على التمسك بتهم الارهاب، ولا شيء إلا الارهاب، وهذا يذكِّر المصرييين بالصراع الدموي بين الجماعات الاسلامية والنظام. تلك أيام سود لا يرغب المواطنون المصريون، بالتأكيد، أن تطل برأسها ثانية.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال