السؤال الذي يطرح نفسه هنا لحساب من يعمل أصحاب تلك الحملات و من أوكل لهم حق التحدث و المطالبة باسم المجتمع؟ عجبا لامرئ يتناقض بمطلبه مع انتمائه غير آبه برأي ومشاعر الآخرين معتـقـدا انه يحـقـق لـهم مصلحة وأنه يسعى لخدمتهم، متطوعا بوقت و جهد و يحمـل جزء من هم جنسه البشري يروج لدعوات وحملات مغلـفـة بعناوين بارزة تطالب بمزيـد مـن الحقوق والحريات للمواطنين وهي تتنافى وقيمه وعقيدته و مجتمعه.
والعجب أن هذا المرء أو المركز يبني مطالبته على أساس ما وصل إليه الآخرون من تمدن و حضارة و رقي ومن مستوى حريات وحقوق وصل إليها الفرد هناك، متناسيا أن أعرافا و عادات و ظروف عامة تحول دون استواء مقياس الحريات أو الحقوق بين مواطن يقيم في دولة من الدول العربية و مواطن يقيم في دولة أوروبية أو أمريكية.
و لو قدر لأصحاب تلك الدعوات التي لا اقبل إلا بنعتها بالمشبوهة أن يتعايشوا مع واقع تلك الدول المتمدنة و المتحضرة و التي تصلح بنظر البعض لتكون مرجعا ومقياسا لمستوى الحريات والحقوق لوجدوا اختلافا كبيرا يحول دون الاستواء المنشود حتى و لو بلغنا علوا كبيرا و حتى إن عدنا إلى قيادة المجتمع الدولي كأمة.
فمن جملة ما يحول دون ذلك أن ثقافة حقوق الإنسان وما تحتويه من معرفة و علم بماهية الحقوق و الحريات وواجباتها - و هي الأولى بالمطالبة - مترسخة لدى المواطن الغربي بوجود منظومة تعليمية تهتم بنشر هذه الثقافة في المدرسة و الجامعة.
مما يجعل المواطن متفهما لمعنى الحق و مسئولا عن حريته و هذا مما يفتقده مواطنينا في الدول العربية، فلماذا إذا المطالبة بالحقوق والحريات ما دام مواطننا المحترم سيسيْ استعمال الحق و يحول سكون المجتمع إلى ساحة تراشق و قدح و ذم كما فعل أشقائنا في اغلب الدول العربية.
و مما يحول دون استواء مستوى الحقوق و الحريات أن تركيــبة المجتمع العربي تنتمي بأغلبها إلى بيئة دينية محافظة سواء كانـت إسلامية أم مسيحية حيث تزيد نسبة المحافظين عن المتحررين بتسعين بالمائة بخلاف البيئة الغربية حيث لا يزيد نسبة المحافظين إلى المتحررين عن العشرة بالمائة، فلماذا إذا تبنّي بعض المطالب والحملات التي تزيد من تفسخ العادات و التقاليد المحافظة و تهدم خصوصية المجتمع التي لا تشكل أي عائق أمام التمدن و التحضّر، محولة المجتمع إلى حديقة حيوانات لا تراعى فيها الآداب العامة و تنتشر فيها الرذائل.
ولو قدر لصاحب الحملة والدعوة أن يمعن النظر في ظروف الدول التي ارتقى فيها مواطنيها بحقوقهم عنان السماء لوجد أن البيئة السياسية لتلك الدول مستقرة و لا تواجه أي تهديد و لا يوجد لديهم جار يهددهم كما يوجد لدينا إسرائيل ولا يوجد لديهم متحف نظم سياسية متعددة المناهج و الأفكار كما نملك نحن في منطقتنا العربية.
و من جملة ما يحول دون استواء الحقوق و الحريات بين عالمنا العربي وعالم أصحاب الدعوات والحملات المشبوهة هو جهلهم المطبق بان الحريات و الحقوق تتنامى و تتناقص باطراد مع تنامي وتناقص التطور الاقتصادي والعلمي للمجتمع و ليس العكس كما يظن البعض بان الارتقاء في مستوى الحقوق و رفع سقف الحريات يساعد على التطور الاقتصادي و إحداث النهضة العلمية والتكنولوجية فلا فائدة ساعتها من منح الجائع حق التملك و التعبير، متناسين إن حقوق الإنسان هي منظومة اجتماعية تتطور بتطور المجتمع و لا تكون أداة شرط لتطوير المجتمع وغير مدركين انه من حق الأغلبية المحافظة أن تحتفظ بخصوصيتها أمام حق أصحاب الدعوات.
و الغريب في الأمر و الملفت للنظر أن مرجعية الحق المطالب به من قبل البعض يستند إلى معيار قوة من يملكه فما يملكه المواطن الأوروبي و الأمريكي من حقوق و من مستوى حريات أصبح لدى الغالبية مرجعا و استغرب لماذا لا يعتبر انحناء المرأة الأسيوية لزوجها مرجعا حقوقيا أو مطلبا لأصحاب الحملات و الدعوات، أم لكون اليابان و الصين ليستا قطب عالمي.
ومما يلفت النظر أيضا وجود عدم ثقة بين أصحاب تلك الحملات وبين السلطة العامة حاملين شعار أن ما ينتزع من استثناءات وقوانين تحقق لهم مطالبهم يعتبر غنيمة، مستعينين بوسائل الضغط الخارجية ومستعملين مقولة " الحق ينتزع ولا يهب".
إن الدعوة أصبحت ماسة و حاجة لالتفاف مؤسسات المجتمع المحلي المدنية و الحكومة لإنتاج أجندة وطنية في الأردن ترسم ملامح وحدود الحقوق و الحريات في الأردن و تراعي ظروف و حاجة الوطن و ترسم خطة طريق للمجتمع محددة ما هي الحقوق التي تتناسب و خصوصية المجتمع، تتبنى منهجا واضحا يهدف إلى تنمية المجتمع و ترسيخ مفهوم حقوق الإنسان في المجتمع، تتعامل بشفافية مطلقة مع الجميع.
لماذا الإصرار على وصف المجتمع الأردني بالمعاق و ضرورة الاستعانة بخبرات و أموال المؤسسات والمراكز الدولية والإقليـمـية ونحن في الأردن نمــلك من الوسائل و الإمكانيات ما يمكننا من نشر خصوصية الحقوق و الحريات حتى على مستوى العالم مثلما استطعنا أن ننشر خصوصية رسالة عمان على مستوى العالم وأن نكون في عداد الدول المصدرة للكوادر التدريـبـية والتربوية.
لقد قدر لي أن احضر بعض الورش التدريبية و المؤتمرات التي تحمل عناوين جذابة تدعو في مجملها إلى المطالبة بحرية التنظيم والتجمع و بعضها يدعو إلى إلغاء عقوبة الإعدام و البعض الأخر يدعو إلى المزيد من حقوق المرأة و برأي الشخصي أن المجتمع الأردني لا يحتاج في الوقت الراهن إلى أيا من تلك الحقوق.
فالمجتمع الأردني كغيره من المجتمعات العربية يحتاج إلى نشر ثقافة الحق و الحرية بمفهومها المبسط ابتداء من المدارس حتى يضمن المجتمع أن المواطن لن يستعمل حقه في التعبير و التنظيم بما ينتهك حق الآخرين فمجتمعنا لن يكون أفضل حالا من أشقائنا في فلسطين و لبنان و العراق و موريتانيا والسودان و الجزائر... الخ. حيث أساء الأشقاء استعمال الحق و فهموا أن استعماله يتطلب تهميش و قتل الآخرين.
و لسنا في حاجة إلى دعوات لإلغاء عقوبة الإعدام لأسباب لا تستحق حتى أن تذكر فهي و بخلاف أنها منافية للأديان و إنكار للتوجيهات الربانية , فقد ثبت عدم جدواها حتى في العالم الغربي فهذه ولاية كاليفورنيا الأمريكية و ولاية نيويورك عدلت عن قرارها بإلغاء العقوبة إلى إعادتها بعد أن تيقنت آن وجودها أفضل لحماية المجتمع من مراعاة شعور المعدوم أو أسرته أو مراعاة شعور مناهضي العقوبة المرهفين بالأحاسيس.
و اعتقد أن المرأة الأردنية على وجه التحديد و بعد ما وصلت إليه من تطور في مستوى الحقوق و الحريات ليست بحاجة إلى مزيد من كماليات الحقوق فهي في كل مكان و ركن في مجتمعنا و من يذهب إلى عمله باكرا يشاهد أفواج من النساء و الفتيات الذاهبات إلى عملهن بعد أن أخذن حقهن في التعليم و كفل لهم القانون حقوقهن، حتى و إن وجدنا بعض السلوكيات الخاطئة في التعامل مع المرأة من قبل البعض أو وجدنا بعض العادات الغير محمودة و التي تتقلص تدريجيا لتصبح ظاهرة فردية كتزويج الفتيات الصغيرات أو بوجود ثغرات في بعض القوانين التي تميز أحيانا بين المرأة و الرجل.
فمعالجة هذه السلوكيات لا تحتاج إلى استعانة ببرامج و أجندات خارجية خصوصا إذا ما علمنا أن نشر الوعي و تنفيذ برامج التوعية المحلية و الارتقاء بمستوى التعليم كفيل بان يمحو هذه السلوكيات خلال عشرة أعوام.
و لا ادري ما حاجتهن لحملات تنادي إلى استقلاليتهن و الدعوة إلى المساواة الكاملة مع الرجل خلافا لطبيعة الجنس و لرفض اغلب النساء مثل تلك الدعوات لدرجة أنهن أصبحن يطلقن النكات حول استقلاليتهن، و الأدهى أن المساواة المطالب بها تؤدي مع مرور الزمن إلى التقليل من شان ارتكاب الفاحشة و السفر و الزواج بدون إذن عملا بمبدأ المساواة.
وما زالت الدعوات مستمرة لإلغاء عقوبة الشرف المخففة في دعوة صريحة و مشبوهة لفتح باب الزنا في المجتمع الأردني المحافظ.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا لحساب من يعمل أصحاب تلك الحملات و من أوكل لهم حق التحدث و المطالبة باسم المجتمع؟
ومما يلفت الانتباه أيضا أن اغلب أصحاب الدعوات بالرغم من تشتتها و افتقادها إلى مرجعية موحدة تعمل على اختزال الحقوق والحريات ضمن ثلاث حقوق هي: حق التجمع – حق التعبير – حق المرأة في المشاركة السياسية مما يعمل على تهميش وعدم تسليط الضوء على قضايا أكثر أهمية كحقوق العمال و الأطفال و الشباب مع العلم أن الأردن و قياسا على وضعه كدولة شرق أوسطية و ما يحيط و يحاك ضده وصل إلى درجة جيدة من مستوى الحقوق السياسية و إلى درجة عالية جدا من مستوى توفير الحماية للمجتمع .
مرتكزات الأجندة الوطنية:
على الحـكــومة الأردنية كـطـرف أقـوى و صاحب ولايــة أن يـبـادر إلـــى إنشاء مجـلس وطني – كـنا قـد قدمنا اقتراح سابق بإنشاء وزارة متخصصة لحقوق الإنسان - يضم كافة مؤسسات المجتمع المدني بالإضافة إلى تمثيل رسمي يضم كافة الخدمات التي تقدمها الدولة على اعتبار أن الحقوق تتنوع ما بين اقتصادية و ثقافية و سياسية و مدنية و اجتماعية و دينية، يعمل على رسم ملامح الأجندة الوطنية بناء على حاجة المجتمع مستعينا بحاجات المجتمع من جهة و بخبرات و إمكانيات المجتمع من جهة ثانية.
و نرى أن من أولويات المجلس و قبل البدء في وضع الأجندة الوطنية أن يعمل على جمع مؤسسات المجتمع المدني نحو هدف واحد و ليكن مثلا: حق المواطن يوازي حق المجتمع، و البدء في توحيد و جمع مؤسسات المجتمع المدني ضمن مساق وطني يعمل على نبذ ما يخالف ناموس الأمن الاجتماعي و يخـــلق وسيلة ديمقراطية لتنظيف الغبار الغير مرغوب به، و لا ضير أن يكون هناك مدونة سلوك لمؤسسات المجتمع المدني تكون شاملة و شفافة.
ولا تقتصر معالم الأجندة الوطنية و خطوطها على الأخذ باعتبارات الدين و العادات والأعراف السائدة أو المصلحة العامة فقط. وإنما ترسم سياسة تنشئة أجيــال واعية و مثقفة و ملمة بمفهوم الحقوق و الحريات وتعي أن الحق إنما هو جزء من كيان الإنسان و شخصيته و يعبر عن أحلامه و مستقبله و لا يكون ذلك إلا من خلال التنشئة المدرسية المبكرة و الانتظار لربع قرن من الزمن ليأتي هذا التوجه من الأجندة الوطنية أكله.
و لا يقف الأمر عند هذا التوجه و المنحى بل يتوجب الوقوف عند منعطف هام مطلوب و هو مدى الحاجة للاستعانة بخبرات و تجارب الآخرين في رسم سياسة الأجندة الوطنية و لا ضير في ذلك إن كان ذلك مما لا يخالف الاعتبارات السالفة الذكر فالفرنسيين بثورتهم الكبرى عام 1789 رسموا ملامح أجندتهم الوطنية من تجارب و معاناة أوروبا بأكملها، والأمريكيين فعلوا ذلك في العام 1791 من خلال وثيقة الحقوق و كذا فعل الاتحاد الأوروبي في العام 1950 بإقراره الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان بسبب التجربة المريرة التي واجهت أوروبا من قبل النازيين وغير ها الكثير من تجارب الأمم و التي لا ضير من الاستفادة من تجاربهم طالما تحافظ على هوية و ثقافة الوطن.
إن وجود أجندة وطنية لحقوق الإنسان تعكف على تلمس حاجات المجتمع و وضع برامج وحلول لمعالجتها سيعمل على الحفاظ على هوية المجتمع وخصوصيته وسيتلمس كل المواطنين تبعات البرنامج و التي على الأغلب ستكون ايجابية كونها بنيت انطلاقا من حاجة المجتمع.
كما أن وجود الأجندة الوطنية سيذيب الجبل الجليدي و العلاقة المريبة المتبادلة بين مؤسسات المجتمع المدني والحكومة وسيوصد الباب أمام تدخل المنظمات الدولية والإقليمية في شؤون المجتمع خصوصا إذا ما علمنا انه حتى صندوق النقد الدولي يتدخل تحت ذريعة المطالبة بإجراء إصلاحات وإقرار أنواع خاصة من الحقوق لفئات محددة من المجتمع و منح المزيد من الحريات.
فلماذا نفتح على أنفسنا بابا لن نستطيع إغلاقه إذا فتح، و نلجأ إلى من يطمح للتدخل في شؤوننا و العبث يقيمنا و أعرافنا، معتقدين أن رفع مطالبنا إلى بعض المنظمات المشبوهة أو باستيراد برامج لا تتناسب و مجتمعنا هو من يخدم مجتمعنا متناسين الآية الكريمة القائلة (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا. الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا و هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا).
اختتم دعوتي بتذكير كل الأصدقاء و القراء أن الدافع من وراء هذا الموضوع هو حب هذا المجتمع الذي ولدنا من رحمه و ترعرعنا في ظلاله و ستموت منتمين لعروبته و تقاليده و أعرافه التي نفتخر بها، و أن جميع ما تضمنه الموضوع من اقتراحات أو عبارات استنكار ليست موجهة ضد أي ناشط أو مركز أو منظمة.
غاندي أبو شرار
التسميات
حقوق الإنسان