طغت الوجوه المغطاة والحجارة والغاز المسيل للدموع على شوارع القدس الشرقية في "يوم الغضب" الشهر الماضي، والذي أعلن رداً على افتتاح كنيس في الحي اليهودي من القدس الشرقية بجوار المسجد الأقصى.
وراوحت القدس في الأسابيع التي تلت، موقعها في العناوين الرئيسية مع إعلان الحكومة الإسرائيلية نيّتها إنشاء 1600 وحدة سكنية جديدة في القدس الشرقية وفندق في وسط حي الشيخ جراح الفلسطيني. إلا أن أمريكا، بسبب التوقيت أو من حيث المبدأ، وقفت ضد هذا التحرك هذه المرة، تماماً كما فعلت السلطة الفلسطينية التي اعتبرت أن خطوة كهذه سوف تُفشِل جهود التفاوض بشكل كامل.
في هذه الأثناء، وفي الشارع، يُترجَم انعدام الثقة المتنامي في المفاوضات إلى حديث حول احتمالات انطلاق انتفاضة ثالثة، حيث يُنظَر إلى الصدامات التي وقعت في أنحاء القدس والضفة الغربية من قِبَل البعض على أنها مقدمة لانفجار أوسع مدى. والسؤال الحاسم الذي يطرح نفسه هنا هو هل نحن على أبواب انتفاضة ثالثة تبدأ في فترة قريبة؟ وكيف ستبدو هذه الانتفاضة في مضمون الحواجز وجدار الفصل؟ وما الذي ستتمخض عنه هذه الانتفاضة: البندقية أم غصن الزيتون؟
تعود بنا هذه السيناريوهات إلى الجدل الحواري الذي ساد ستينات وسبعينات القرن الماضي بين مارتن لوثر كنغ ومالكوم إكس حول استخدام العنف أو اللاعنف في النضال من أجل نيل الحقوق المدنية. طالب كنج بالتغيير عبر الأساليب اللاعنفية وحدها، بينما آمن مالكوم إكس بأن التغيير يجب أن يأتي من خلال كافة الأساليب الضرورية. ومن الأهمية بمكان في هذا المضمون ذِكر فرانز فانون، الذي قال أن التحرير لا يمكن أن يأتي إلا من خلال العنف، وأصبح بذلك مصدر إلهام للعديد من حركات التحرر العنفية ضد الاستعمار في ستينات وسبعينات القرن الماضي، وخاصة في الشرق الأوسط. واليوم، ما تزال العديد من الحركات الفلسطينية والإسلامية مثل حماس والجهاد الإسلامي أسيرة لهذه الرؤى العنفية، أو كما أسماها فانون "نبوءة العنف"، والتي أعتَبِرُها أنا "خطيئة الفلسطينيين المفضلة"، فهم وحدهم الذي يسخّرون الطرح الديني لتبرير أعمالهم.
ومن الأصوات الهامة الأخرى في الجدل الدائر، رغم كونها غامضة إلى حد ما، صوت ادوارد سعيد، الذي برّر المقاومة المسلّحة، ولكن بأسلوب محدود في إطار القانون الدولي، ودافع عن الكفاح السلمي غير العنفي. ويشكّل توجه ادوارد سعيد، الذي يدمج أفكار غاندي وفانون، توجهاً ثنائياً من العنف واللاعنف، يبدو على الواجهة غير منطقي. قد يكون هناك بعض الإدراك الحسي العقلاني في هذا الموقف إذا أخذنا بالاعتبار أنه رفض اعتبار استهداف المدنيين أمراً شرعياً، واعتقد في الواقع أن التفجيرات الانتحارية تتناقض مع فكرة "التحرير". لسوء الحظ أن تفسيراته وشروطه بأن المقاومة المسلّحة يجب أن تبقى ضمن الحدود التي تضعها قوانين الاشتباك، جرى تجاهلها من قبل العديد من الفصائل الفلسطينية.
أعتقد شخصياً أن منطق العنف يتناقض كلياً مع مفهوم اللاعنف. بمعنى آخر، يتوجب على الفلسطينيين استخدام "انتفاضة معدّلة"، إذا كان لا بد من ذلك، ليس فقط لأنها الرد الأخلاقي والإنساني على الاحتلال، وإنما كذلك لأنها أكثر فاعلية، وبلغة يفهمها العديد من الإسرائيليين والناشطين من دول كثيرة.
لن يكون لنضال مسلّح يستهدف المدنيين ويطلق الصواريخ ولا يلتزم بالقانون الدولي سوى أثر سلبي يحمّل الفلسطينيين الكثير من الأعباء. فهو يدفع عناصر المجتمع إلى التطرف والأصولية، ويؤدي إلى المزيد من الحقد والمعاناة لكلا الطرفين، وسيعيق، دونما شك، عملية بناء المجتمع الفلسطيني. علّق ادوارد سعيد مرة قائلاً أنه حتى في خضمّ النضال، من الأهمية بمكان البدء بالتخطيط لمستقبل المجتمع بعد أن يحقق التحرير، مع معرفة أن خصائص المجتمع تحت الاحتلال سوف تبقى بعد تحقيق التحرر منه. وبرأيي أن استخدام العنف لتحقيق التحرر لن يؤدي إلا إلى عنف وفساد داخليين بعد التحرير.
وقد تكون تجربة النضال اللاعنفي في بلعين ونعلين في الضفة الغربية وحي الشيخ جرّاح في القدس، حيث يعمل الناشطون الدوليون والإسرائيليون جنباً إلى جنب مع الفلسطينيين رغم الظروف الصعبة لبناء مستقبل من الاعتراف والقبول المتبادلين، هي الأمثلة الأبرز على روح اللاعنف.
التسميات
فلسطين