ترحيل للفلسطينيين من الضفة الغربية.. التعامل الإسرائيلي الرسمي مع موضوعة الاستيطان وإبقاء عملية التفاوض حية

ردود الفعل العربية على القرار العسكري الإسرائيلي «الجديد» تذكر بمسلك الدجاج: يتبعثر في كل الاتجاهات، ويركض مذعوراً مبقبقاً بصوت عال... ليعود بعد دقائق مستكيناً ناقراً الحبوب من جديد.
فالمقلق في هذا الزعيق استناده إلى فراغ. هو استجابة غريزية لخطر، وليس جزءاً من تصور ولا من خطة. ويزيد في تدعيم صفته تلك أنه يتكرر حيال كل خطوة من خطوات الاحتلال الإسرائيلي. وهذا يجعله مستهلكاً، مفهوم الحدود والنتائج، أو اللانتائج.
الفراغ: رأس المصيبة ليس وجود اتجاهات عربية أو فلسطينية تدعو إلى تسوية مع إسرائيل، ولو مجحفة تماماً، وتسميها عملية سلمية ومفاوضات أو ما شئتم. فقد يمكن الدفاع عن مثل هذا التصور، وعن الحاجة للرضا بحل ما، إذا ما كانت شروط مثل هذا الحل متوافرة، أي إذا كانت هناك فرصة حقيقية للتوصل إلى تسوية مهما كانت. من المقر به أن مثل هذه الإمكانية غير متوفرة اليوم. أركان السلطة الفلسطينية نفسها يقولون ذلك، ويشيرون بتكرار، وفي كل مناسبة، إلى أن المفاوضات وصلت إلى طريق مسدود، هذا عدا خروجها تماماً عن إطار اتفاقية أوسلو. وعليه، بنى سلام فياض مجمل خطته على نظرية فرض أمر واقع بعد سنتين، يتمثل بإعلان أحادي الجانب لدولة فلسطينية. وهو، استعداداً، منصرف إلى بناء ما يسميه مؤسسات تلك الدولة، لتوفير مستلزمات الإعلان ذاك، متجاهلاً بالتأكيد أن الشروط المطلوب توافرها سياسية قبل أن تكون تقنية.
أما الجانب الإسرائيلي، فيصعب اتهامه بعدم الوضوح، إلا لمن لا يريد أن يرى. وكمثال، تكفي ملاحظة التعامل الإسرائيلي الرسمي مع موضوعة الاستيطان في الضفة الغربية، وهو أمر يوجد في صدده توافق دولي على لاشرعيته، وقد مارس بشأنه الرئيس أوباما ضغوطاً جدية. وحين قبل نتانياهو بإعلان تجميد الاستيطان لعشرة أشهر، خرج وزراؤه، كعوزي لندو وزير البنى التحتية، وهو صاحب الشأن اختصاصاً، وبنيامين بيغن، ابن مناحيم، والوزير بلا حقيبة دون أن يقلل ذلك من أهميته، يدلون للملأ بتصريحات تقول إن الاستيطان سيستأنف عند نهاية تلك المدة بوتائر أسرع من السابق. كما تورد كافة التقارير الدولية، الصحافية والديبلوماسية، أن الاستيطان لم يتوقف فعلياً وعملياً أبدا، أي أن البناء في المستوطنات مستمر من دون إعلان.
والمهم في الأمر أن هذا الموقف ليس وليد تعنت أو تطرف من قلة من المسؤولين. وهو كذلك ليس عابراً أو طارئاً أو تكتيكياً، بل يستند إلى رؤية إسرائيلية راسخة ومتصلة، يتقاسمها في العمق كافة الساسة إلى أي جناح انتموا، وذلك خلا بعض التفاصيل المتعلقة بالدرجة الأولى بالإخراج والأسلوب. وتدليلاً، فإن قادة حزب العمل، منذ بداياته، كما حالياً في ظل ألمع شخصياته وأقواها دون شك، أي إيهود باراك، ينسجون بلا انقطاع على هذا المنوال. فهناك خيط جامع منذ الإعلان عن ولادة «وطن لشعب بلا أرض في أرض بلا شعب»، الشعار الذي يمثل قمة إنكار وجود الفلسطينيين، مروراً بقول موشيه دايان عام 1968 إن «المسألة ليست ما هو الحل، ولكنها كيف نعيش من دون حل»، وانتهاء بأفيغدور ليبرمان، الذي يحلو للبعض اعتباره مجنوناً، ولكنه وزير خارجية إسرائيل وأحد نواب رئيس وزرائها، الذي يدعو إلى التفكير في «إدارة الصراع وليس حله». وهذا الخيط الجامع هو نية إسرائيل السيطرة التامة على الأرض التي تقع بين البحر والنهر. ولأن دون ذلك عقبات وعوائق، تتمثل بالدرجة الأولى في وجود الكتلة البشرية الفلسطينية، تُجرى إدارة تلك السيطرة، وليس ممارستها مباشرة وفق القواعد الكلاسيكية.
أما الشكل الأمثل لهذه الإدارة، فالمزاوجة بين التحكم الميداني والتحكم السياسي. الأول متحقق عبر طرائق شتى واسعة وفعالة، كشبكة عنكبوتية، تصنعها في الضفة مئات نقاط التفتيش العسكرية، والجدار، والبؤر الاستيطانية، ووجود قوات الاحتلال حيثما تشاء، ودخولها إلى أي منطقة تشاء، حتى على بعد أمتار من مقر رئاسة السلطة، والوجود العسكري الدائم في غور الأردن، والإغلاق والسيطرة بالنار الخ... وهو ما يجري في المعتقل الكبير، غزة، كما في الضفة على أية حال.
أما السيطرة السياسية فتتم عبر الحرص على إبقاء عملية التفاوض حية. فهذه توفر لإسرائيل على المستوى الدولي غطاء من الشرعية، وإن كان مصنوعاً من عمى أو نفاق كاملين، تتمكن في ظله من الاستمرار في العملية الأولى بأقصى قدر من التمويه. وهي كذلك توفر لها تحرراً من عبء الاحتلال وموجباته، فتتحمل السلطة الفلسطينية كلفة إدارة الحياة اليومية (وهذا أيضاً، وفي المؤدى العملي، مشروع إسرائيلي قديم كان اسمه «لجان القرى والأحياء»)، ويتحمل المجتمع الدولي الكلفة المادية عبر المنح السخية التي تغدق على السلطة وعلى فئات من المجتمع المدني، مما يمكّن من تجنب إماتة الفلسطينيين من الجوع بمعناه الحرفي.
تلك بمجملها عناصر لإستراتيجية مفتَكرة ومبنية، تحكم مواقف قادة إسرائيل منذ تأسيسها، وبوصلتها ما يسمونه «أمن إسرائيل القومي». وهي بالطبع ليست جامدة أو صماء، بل تجري أقلمتها باستمرار مع المعطيات التاريخية والسياسية، الدولية منها والمحلية. وتحدث حولها خلافات وصراعات، ولكن ذلك كله يتم من داخلها، دون تجاوز لإطارها العام.
وبالطبع يمكن الاعتداد بمقدار الاستحالة التاريخية لإسرائيل، وكيف أن هذه الإستراتيجية، مهما كانت متبلورة ومتماسكة، تركض بهذا الكيان نحو حتفه، لأنها ستصطدم عاجلا أو آجلاً بحدودها الموضوعية، أي بوقائع لا يمكن محوها، على رأسها استمرار وجود الشعب الفلسطيني، بالمعنى المادي والسياسي لهذا الوجود، وكون توازن القوى السائد حالياً، دولياً وإقليميا، ليس قدراً ثابتاً...
الفراغ قائم في الجهة الأخرى: جهتنا نحن. فإن لم نكتف بانتظار اليوم الذي ستظهر فيه تلك الحدود الموضوعية للمشروع الإسرائيلي، لا بد من تسجيل أننا لا نمتلك بإزاء آليات اشتغاله، وهي معقدة ومتشابكة، إلا الاستنكار أحياناً والاستشاطة غضباً، والإحباط في أحيان أخرى والدعوة إلى القبول بواقع الأمر. وهما وجهان لعملة واحدة. فالغضب ليس استراتيجيا! قد تكون له وظائف، كمنع استقرار الاستسلام، ولكنه ليس خطة فعالة. لقد فقد الطرف الفلسطيني القدرة على تخيل مواقف سياسية، وانتهت مثل تلك الرغبة عند الطرف العربي، وكان آخر مظاهرها «المبادرة العربية» المطلَقة في قمة 2002، التي، وبمعزل عن السجال حول محتواها ومقبوليته، بقيت مجرد إعلان للنوايا، ولم تتحول إلى خطة سياسية أو ديبلوماسية، ولا إلى سقف متبلور، أو ضابط لتعيين المقبول والمرفوض.
في هذا السياق، يجوز اعتبار القرار العسكري الإسرائيلي ملهاة سخيفة جديدة... لنا. تلك وظيفته!
نهلة الشهال
أحدث أقدم

نموذج الاتصال