زهرة أوركيد لمحمود درويش.. من صداقة الأحياء إلى تدريب التاريخ على القراءة برشوة الخلود

'الذين يشرفون على تشييد قبورهم، وتأثيثها بصورهم،لا يفكّرون براحة النّوم قريبا من صداقة الأحياء، إنما يفكّرون بتدريب التاريخ على القراءة. ويفكّرون بما هو أصعب: برشوة الخلود. دون أن يعلموا أن الخلود لا يزور القبور، وأنه يحبّ الفكاهة' محمود درويش
 لَـوْ...
نحن كـنـّـا قد حفظنا في الزجاجِ رمادهُ،
كـنـّـا زرعنا زهرة الأوركيد فيهِ،
وانتظرنا أن تـُـسوّي قوسَها القــُــزحيَّ من لبـَنِ النـّباتِ،
وأن تـَـشعَّ كما تـَـشـعّ ُ بداهة ُ البلّور في الأشياءْ.
...............................................................
إنّ الزهورً شبيهة ُ ُ بالنّاسِ يا محمودُ:
ساقُ ُ رِخـْوةُ ُ مغروزةُ ُ في الماءِ أو
جذرٌ هوائيّ ُ ُ يطفطفُ في غبار الغيمِ،
مثلَ الناس ِ،
طازَجة ُُ ُ ليومٍ واحدٍ أو ربّما يومينِ في الأسبوع أو في الشهرِ،
مثلَ الناس ِ،
جاهزةُ ُ لتدخلَ في مسامِّ الأرضِ،
مثلَ الناس ِ؛
لكنَّ الزهورَ أقلّ ُ منـّا ريبة في الموتِ
]![نـحنُ بَـنِِـِيهِ
لا يعني لها شيئا 'خلودُ الرّوحِ'
عند الناس ِ،
كالحيوان.. كونٌ لا إلهَ لهُ الزّهورُ.. تشمّـُنا.. وكأنّها أبدا تقيمُ على
شفا لغةٍ.. كأنّ بها من الأسماك شيئا، وهي تصرخ في جدار مُصْمـِتٍ
[أعني قرار النهر] حيث تشعّ ُ فيه كما تشعّ ُ بداهة البلّور في الأشياءْ
................................................................................
فيما يلفُّ الناسُ موتاهمْ بأسمالٍ من الكلماتِ،
فيما الناسُ يُغـْـويهمْ حليبُ الجيـرِ فوقَ قبورهمْ
فيبيّضونَ الموتَ،
كانت زهرةَ الأوركيدِ تصنعُ في أناة قوسها القـُزحيَّ في ألياف نخلٍ أو لِحاءِ صنوبرٍ أو سرْخِس ٍ ..
ذكرى ملوكِ الصّينِ.. خيمياءُ النساءِ وسرّ ُ مخدعهنَّ فيهِ،
إذا انفـتـقــْـنَ على سرير الحبِّ..
مثل القـُنـّـبِ الوحشيِّ في ليل الحديقةِ.. عطرُ كونفيشيوسَ..
ذكرى دَينـَصُورَاتٍ وغاباتٍ.. ألفـْـباءُ النباتِ ..اِسمٌ لكنعانيّةٍ رَعـَويّةٍ..
وفراشة ُ ُ ليليّة ُ ُ حينًا وحينًا نحْـلة ُ ُ.. قـَبْقابُ فينوس ٍ ومغطسُها.. يدُ البوذيِّ..
ذكرى صائدي الأوركيدِ في الأمَزُون ِ،
وهي تشعُّ فيهِِ كما تشعُّ بداهة ُ البلّور في الأشياءْ
....................................................................................
ولربّما يومًا صحبناها[زجاجَتنا] إلى بغدادْ
ـ كان العراقُ طريق آلاف القواطعِ.. قبل هذي الحربِ!
ـ تستهدي الطيورُ إلى الفراتِ، كأهلنا في الجاهليّةِ، بالنّجومِ!
ـ كأنّها أسراب أمواهٍ تحكُّ على زجاج النهر أجنحةً.. وتغفو فوق وجه الماء كالشــبّوطِ!
ـ كنّا في طفولتنا نثـَبِّـتـُـهُ على عوديْنِ مغروزينِ حتّى يستوي!
تذكرُ سجنـَها!ـ كصديقنا في 'نقرة السّلمان'؟!
.....................................................................................
بغدادُ.. خِـلْطٌ من حروفِ طباعةٍ حجريّةٍ.. باكورة ُ النيران ِ..
صَلـْصَلـَة ُ السّلاحِ.. عظامُ سيّاراتها.. ألواح سومرَ في المزادِ..بضائعُ الطرقاتِ..
أجهزةُ المطابخِ ..والزّجاجيّاتُ.. سِتـْراسٌ وألماسٌ..
عراقيّونَ يقتلعونَ أحجارَ الغيابِ.. على طريق النهرِ..
واحدةً.. فواحدةً..
وكوبوي يقـلّـمُ في اخضرارِ الشمس صحنَ جوادهِ، فيما الجوادُ يهزّ ُ أجراسَ اللجامِ..
نحنُ بياضُ مرماهُ..فلا تتركْ يدي!!ـ تعالَ
'منطادُ زبلنَ' في سماءِ الليلِ مشتعلاً.. وطفل يختفي في ذيل ثوبٍ..
ـ نحن نعرفُ كيف نسلكُ وحدنا من 'شارع السّعدونِ' حتى 'خان مرجان ٍ'..
يضيءُ طريقنا قمرٌ من الليمونِ..
أهذي زهرةُ الأوركيدِ؟!ـ ما هذي الزّجاجة ُ؟ قلْ
عفوا.. نعم ْ..هذا صديقٌ شاعرٌ..!ـ لا
وسيضحكون ونحنُ نجلسُ فـَاكِهينَ إلى زجاجتنا..
وللضّحكاتِ في بغدادَ [ خلف البابِ ] طعمُ التمرِ.. رائحة كقهوتها..
رنينُ الفضّةِ الذهبيّ ُ في أيدي العراقيّاتِ إذ ْ يطفئنَ شمعتهنّ من خجلٍ،
ويفتحنَ الظلالَ لزهرةٍ مفطومةٍ كانت تشعُّ كما تشعُّ بداهة ُ البلّور في الأشياءْ
...................................................................................
بغدادْ!
لاشيء ينقصُها.. سوى بغدادْ!
...................................................................................
ولربّما يوما صحبناها[زجاجتـَنا] إلى 'لاسْ كيوفاشْ'..
هو بيتنا الغجريُّ حيث لسان 'بُوعَبْديلَ' في الحمراءِ بابٌ كالضبابِ مواربٌ..ليلا..
و'بوعَبديلُ' يرقد واجفا في ذيل ثاءٍ..
ـ لا تخفْ!
بلسان أوركيدٍ تكلّمهُ[زجاجتـُنا] عساهُ يشعّ ُ 'بوعبْديلُ' ثانية هناكَ
كما تشعّ ُ بداهة ُ البلّور في الأشياءْ
.......................................................................................
ولربّما يوما صحبناها[زجاجتـَنا] إلى مدن العراقيّين في المنفى..
إلى باراتِ سعدي، في الضّواحي
ـ هذه الأوركيدُ!
ـ تكفي زهرة ُ ُ منهُ لتحجبَ غابة ً!
ـ لا ينبتُ الأوركيدُ في هذي الأماكن عادةً!
ـ لي نجمة ُ ُ كانت تشيرُ إلى الفرات كأنّها سبّابة ُ ُ!
ـ نحن احتلبنا اللوتسَ الهنديَّ حتّى لا نعودَ إلى العراقِ إذنْ؟!
وتطبق زهرةُ الأوركيدِ عينيها.. وتغفو
كي تضيع هناك في ملكوتِها
وتشعَّ فيه كما تشعُّ بداهة ُ البلّورِ في الأشياءْ
.......................................................................................
هي زهرةُ الأوركيد طازَجة ُ ُ لأيّام... ولكنّا سنحفظ في الزجاج رمادَهُ..
حتّى إذا مالتْ بها سِنــَــة ُ ُ من الأوركيدِ، تعطفها وتـَـلْويها ،
غمَـسْنا في روائحها أصابعـَنا.. لنزرعَ زهرة أخرى.. وأخرى..
وانتظرنا أن تـُـسوّي قوسَها القــُــزحيَّ من لبنِ النّباتِ،
وأن تـَـشعَّ كما تـَـشـعُّ بداهة ُ البلّور في الأشياءْ.
منصف الوهايبي ـ تونس
أحدث أقدم

نموذج الاتصال