التحرر يبدأ من داخل الذات ومقاومة ثقافة الخنوع والاستسلام

في يوم اختلف عن بقية الايام من سنة 1955 وفي ساعة محددة توقفت حافلة من محطة بالولايات المتحدة الامريكية، وفتحت ابوابها لتستقبل مجموعة من المواطنين الذين سرعان ما اتخذ كل منهم مقعدا، كما جرت العادة، وكان يمكن للحافلة ان تنطلق بصورة طبيعية وتستأنف سيرها، لو لم يتجه المسؤول الى المواطنة روزا باركس ذات الملامح الافريقية، ويطلب منها مغادرة مقعدها المخصص لذوي البشرة البيضاء، كما يقتضي القانون العنصري المعمول به حينذاك، ولكنها رفضت واحتجت واستنكرت بكل اصرار، ودافعت عن موقفها بعد اعتقالها ومحاكمتها وادانتها وتساءلت في غضب: كيف يمكن للانسان ان يرضى بما يقيد حريته؟ وقد اثارت هذه الحادثة مختلف الاوساط الامريكية، ولكنها لها تداعيات عميقة، واستطاعت ان تفجر ثورة الحقوق المدنية التي امتد لهيبها الى مختلف انحاء الجنوب الامريكي، ولم تهدأ الا بعد ان اضطرت السلطات الى الغاء القوانين العنصرية. ولا شك ان هذه الحادثة تمثل منعرجا حاسما في حياة الامريكيين السود، حيث جعلتهم يكتشفون قدراتهم ويتجاوزون ما كانوا عليه من تهميش ومنزلة وضيعة ويكتسبون ثقة بالنفس، ويطمحون الى القيام بدور يؤهلهم للمشاركة مع غيرهم في تقدم وطنهم ورقيه، وهذا امر مشروع فرضته علاقات ووقائع جديدة تتماشى مع متطلبات النظام الديمقراطي السائد. ونحن لو تجاوزنا موقف تلك الفتاة الامريكية وما اثاره من نتائج على المستوى الاجتماعي والسياسي، وتأملنا ابعاده الفكرية لتبين لنا ان التاريخ لا تكتبه الا ارادة البشر، وان الاحداث لا تصنعها الا المواقف الحاسمة للانسان. وتلك حقيقة نلمسها في مختلف الحضارات الفاعلة في مجرى التاريخ، رغم تفاوت درجة الاستجابة والتفاعل والاستعداد. واذا كانت معطيات الواقع الذي تمردت عليه روزا باركس ودعت الى تغييره والاحتجاج عليه واصلاحه، قد وفرت لها ظروفا مناسبة لتحقيق حلمها بالحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة، فان غيرها ممن ظهروا في بيئات اخرى مختلفة وتعرضوا مثلها للتعسف والحرمان من الحقوق وحاولوا التمرد على واقع العبودية والمهانة، لم تتوفر لهم شروط النجاح في مهماتهم الاصلاحية رغم تضحياتهم الجسام. ولعل المنطقة العربية يمكن ان تقدم لنا احسن مثال على ذلك، فمنذ قرنين تقريبا ادركت فئة من النهضويين العرب الهوة السحيقة التي تفصل امتهم عن الغرب، واصطدموا بواقع الاستبداد والتخلف والامية والجهل والعبودية ودعوا الى التغيير وطالبوا بالاصلاح والتحديث. وكانت لهم في هذا المجال نضالات وافكار ورؤى وتجارب متنوعة مثلت في مجموعها ما عرف بالمشروع النهضوي . وقد لحق بالكثير من دعاته ما لحق بروزا باركس واكثر، من تنكيل واضطهاد وتعسف، بل انه يمكن القول ان نهاية اغلب رواد الاصلاح كانت دراماتيكية، فمنهم من نفي ومن عذب ومن سمم ومن قتل ومن خذل ومن تعرض للترويع والتجويع . ولئن لم تذهب سدى نضالات وتضحيات الفتاة الامريكية ومن وقف معها، بل حققت نتائج ايجابية بفضل ما توفر لها في الواقع من شروط ملائمة، فان محاولات المفكرين العرب فشلت في تحقيق ما ظلوا يحلمون به ويطمحون اليه وكانهم كانوا يحرثون في سباخ بدليل الاوضاع المتردية التي يعيشها الانسان العربي في ظل نظم الاستبداد والتخلف والقهر الخارجي والداخلي واخيرا عودة الاستعمار و قواعده العسكرية وهيمنة الصهيونية على المنطقة، ولا شك ان هناك مجموعة من الاسباب ادت الى اخفاق محاولات الاصلاح وفشل مساعي التنوير والتحديث.
وليس الهدف من هذا المقال هو دراسة وتحليل عوامل هذا الاخفاق لانها تحتاج الى مجال اوسع ومجهودات اعمق، وقد سبق ان تصدى لها كثير من الباحثين وانما سنحاول التوقف عند ظاهرة لم تعرفها بيئة روزا باركس، وتتمثل في هذه الفجوة الكبيرة القائمة بين المفكرين ودعاة الاصلاح وبين شعوبهم وانعدام التفاعل بين الطرفين، وهذا ادى الى تعطيل لغة التفاهم والتجاوب بينهما، وتعذر تحقيق شروط النهضة والتطور والتقدم، وقد ترتب عليه بقاء النشاط الفكري والسياسي فوقيا معزولا عن قاعدته الشعبية مما دفع بالنقاد الى ان يوجه بعضهم السهام الى المفكرين ويطلب منهم النزول من ابراجهم العاجية، بينما البعض الاخر يتهم الجموع الشعبية بالتقصير وعدم الوعي والجهل يشبههم بالقطيع، والحقيقة انها معضلة لا تزال البلاد العربية تعاني اثارها منذ قرنين، وقد بذل المفكرون مجهودات ملموسة في سبيل اخراج الامة من مأزقها وتخليصها من الاستبداد والتخلف والعجز، ورغم هذه المجهودات فقد ظلت الاوضاع على حالها، وترسخ التخلف وترعرع الاستبداد وساءت الاحوال، مما جعل البعض منهم يدركه اليأس فيصمت وينسحب والبعض الآخر يجمع ما تبقى من نفسه ويهاجر. وقلما نجد منهم من اهتم باسباب غياب الجماهير وعدم تفاعلها مع دعواتهم وتجاوبها مع نضالاتهم، ونحن اذ نركز على هذا الجانب فلاننا نعتقد بانه من الضروري ان يحظى بالعناية الازمة، وخاصة في هذا الزمن الذي يواجه فيه المفكرون والمناضلون صعوبات جمة وعراقيل شتى لا من السلطات الرسمية فحسب، بل من الجماهير التي لها مصلحة في اي تحرك نحو اي تغيير في احوالها.فقد جربوا منذ حوالي قرنين مقارعة اولي الامر ونقد ممارساتهم وتحمل اذاهم، ولكن النتيجة لم تكن في مستوى الامال والتضحيات، اذ لم يبق الا التوجه الى الجماهير والجموع التي لم تتوصل لحد الان الى جعلها طرفا في الدفاع عن قضاياها المصيرية ومصالحها الحيوية. لا بد ان تخرج الجموع من السلبية التي لازمتها منذ قرون، ومن الضروري ان تكون لها مواقف غير الصمت والخوف والغياب، وهذا دون شك سيساعد الاجيال الجديدة من المناضلين ويجعلهم ينجحون في كسب عوامل تمكنهم من تحقيق عصر التنوير العربي الذي طال انتظاره. ونحن نعرف ان المحدد لمواقف الناس وسلوكياتهم هو العامل الثقافي وقد ادركت المؤسسة الرسمية العربية منذ قرون مدى اهمية الثقافة في تحريك المجتمعات وتثويرها وصنع الاحداث التاريخية والمواقف الحاسمة، لذلك بذلت قصارى جهدها في احتكار انتاج ما يلائمها من فنون الثقافة وانواعها وحجب المعرفة الصحيحة، ومحاربة النشاطات الثقافية الجادة، وخنق كل اصوات الابداع الاصيلة، وتهميش رموزها وتجويعهم وتشريدهم وعمدت في المقابل الى نشر قيم الرداءة والتفاهة والسخافة مما يفسد الذوق ويحط من قيمة الانسان ويقزمه ويحد من تطلعاته السامية، ويجعله خنوعا قنوعا يسهل اقتياده، ويقتل فيه روح النقد والبذل والعطاء، ويصادر وعيه وبهذا استطاعت ان تخلق حقائق على الارض وتكتسح الواقع، وتنجح في 'استنساخ' مجتمعات هجينة، تعايشت مع الاستبداد والقهر والامية التي تجعل الناس يتصرفون في حياتهم و علاقاتهم على نحو لا يتلاقى مع القيم الديمقراطية واتسع الفارق الحضاري بينهم وبين مراكز التطور والتقدم الى سنوات ضوئية، ولم تكتف السلطات الرسمية بالهيمنة على افكار الناس وميولاتهم واختياراتهم واذواقهم وترويضهم الى ان تمكنت منهم وزرعت فيهم عزوفا عن كل ما يتصل بالشان العام، بل عملت على التدخل في العلاقة التي تربطهم بخالقهم، وسعت الى توظيفها لمصلحتها بواسطة علمائها وائمتها وبرامجها وكتابها واجهزتها التعليمية ووسائل تاثيرها واماكن العبادة التي اصبحت تتصرف فيها بشكل لم تعد تقتصر فيه مهمتها على ذكر الله واقامة الشعائر الدينية، بل تحولت مهمتها لخدمة مآرب اخرى تتصل بالسلطان ووقع تحويل وجهة الطاعة والخضوع من التوجه الى السماء الى التوجه الى اولي الامر تدعو لهم بالبيعة والنصر والتوفيق، وعلى خصومهم باللعنة والهلاك والعذاب. والجميع يعلم ان السلطة العربية منذ ان اغتصب معاوية الخلافة بالخديعة والتآمر والدهاء، وهي الى حد اليوم تتوخى نفس الاسلوب في الاستيلاء على الحكم، وتعمل باستمرار للهروب من مواجهة المشاكل الحياتية لرعاياها، الى اختلاق المبررات والاسباب التي ترمي لقلب الحقائق وتدعيم مواقفها ومواصلة احتكار السلطة بدون سند شرعي وترحيل اهتمامات الناس الى الحياة الاخرى. وفي سبيل تحقيق ذلك كانت توعز الى اصحاب الفتاوى والائمة وجهابذة الشريعة بالانكباب على النصوص الدينية وتفسيرها للناس وتأويل كل ما يتعارض مع ممارساتهم المخالفة لروح الشرائع والمعاكسة لنسق التاريخ والمتناقضة مع طبيعة الاشياء، واعتقد ان عموم التراث العربي الاسلامي وقع تفسيره وتأويله بشكل يلائم مصلحة الحكام الذين حاربوا الفكر الحر وقتلوا امثال ابن المقفع والحلاج و سمموا الكواكبي ونفوا ابا ذرالغفاري واحرقوا كتب ابن رشد، ونتيجة لهذا سادت ثقافة الخنوع والاستسلام والطاعة والانتهازية وعبادة الشخصية، ووصل الامر بمثقفي السلطة ومواليهم الى اعتبار ان الديمقراطية وحقوق الانسان تعود الى مرجعية ثقافية وثنية ومسيحية لا تتماشى في مفهومهم مع تراثنا الاسلامي الذي يقوم على استمرارية الحاكم في الحكم ... بل ان البعض منهم افتى ببطلان الخروج على الحاكم الا في حالة واحدة يتم فيها ثبوت الزندقة والخروج عن تعاليم الدين والتطاول على الخالق، وهذا تاريخيا لم يقع في رأيهم الا مرة واحدة مع الخليفة الاموي الوليد بن عبد الملك حسبما تروي الاخبار من انه بينما كان يقرأ القرآن مرة وهو سكران عثر على آية تتوعد الطغاة والجبابرة فغضب والقى بالمصحف في موضع واخذ يرميه بالنبال حتى مزقه وهو يخاطبه:
اتوعد كل جبار عنيد فها انذا جبار عنيد   اذا جئت ربك يوم حشر فقل يارب مزقني الوليد
وايمانا بوحدانية الحاكم وعدم الشرك به، فان هؤلاء الفطاحل يرون ان الديمقراطية تعتبر ان مصدر الشرعية هو العقل البشري القاصر والخطاء في حين ان مصدر الشريعة هو الوحي الصادر عن الله، وان حقوق الانسان تقوم على مبدإ وثني هو حرية الاعتقاد. وهكذا وجدنا انفسنا تجاه ميراث ثقافي حضاري يشجع الى حد كبير على السلبية والاستكانة حتى اعتبر بعض المستشرقين ان العجز عن تحقيق نظم ديمقراطية عند العرب تخرجهم من ظلمات الاستبداد، يكمن في الاسلام والثقافة العربية. وقد اثارت هذه التهمة حفيظة مثقفي البلاط فردوا عليهم بغضب وألقوا مسؤولية تخلف العرب على الغرب الذي فرض على المنطقة العربية واقعا استعماريا بغيضا افرز عدة ظواهر من بينها العجز والتواكل الذي ينسبونه للاسلام والثقافة العربية وهما منه براء.
واذا كان الخلفاء في الماضي يعمدون الى اخصاء الخدم خشية على الحريم، فان الخلفاء المعاصرين يحاولون اخصاء شعوبهم بالاعلام الموجه والثقافة المائعة والقمع المنظم خوفا من فحولتهم على عروشهم، حتى تفشى الجهل وغابت الحقائق وتشوه الدين وانحسر مفهومه عند الكثير في خـــرقة على الرأس ولحية في الذقن ودعاء بالنصر للسلطان.
وكما جرد الحكام رعيتهم من الحرية والارادة والعزة والكرامة، جرد كذلك علماؤهم الدين من بعده الانساني ودعوته للخلاص وثورته على كل أشكال استعباد البشر، وجرد كتاب البلاط الثقافة من مضمونها التقدمي ونزعتها التحررية وقيمها النبيلة. واذا ما حاول المفكرون الصادقون ودعاة الاصلاح تغيير هذا الواقع المتردي، ودعوا الى تكوين هياكل وجمعيات ومنظـــــمات تتولى القيام بهذه المهمة وتقوض أركان التخلف وتنشر الوعي بيــــــن الناس وتبشر بالحرية والديمقراطية والعدالة، وتدعو الى احترام انسانية الانسان وتطلعاته وحقه في نظام يشبع رغباته ويلبي طموحـــــاته، تتصدى لهم السلطة بكل اجهزتها القمعية وتضطهدهم وتنتقم منهم في الأجســــاد والأرزاق والأهل، وتحول بينهم وبين ما كانوا يهدفون اليه، لانها تريد أن يبقى الواقع راكدا، ساكنا، سلبيا ويظل الناس تابعين لها خائفــــين منها، يعانون العجز والإذلال والمهانة ويرضون بشروط مهـــــينة للعيش، وتعاملهم كالقطيع وهذا هو السر في تلازم الأمية والاستبداد. واذا كان الاصوليون هم أول وأبرع من يركب موجة الأمية، كما يقول جورج طرابيشي، فان السلطة المستبدة ايضا تجد فيها وضعا مريحا وبيئة خصبة تجعلها تتحكم في مصير الناس وأرزاقهم وإرادتهم وتسوقهم كالأنعام.
واذا ما عرفنا هذه الخلفية التاريخية ومدى تحكم السلط العربية في واقع مجتمعاتها، فهمنا سبب الصعوبات التي تواجه المناضلين والمصلحين في تصديهم للسياسات القمعية التي ينتهجها الحكام، ومدى ما يلحقهم من اذى وسجون واضطهاد، ونحن يهمنا ان ينجح كل دعاة الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان وذلك بان يضعوا هذه الاعتبارات في الحسبان، ويجعلوا من كل مواجهة مع السلطة تمر حتما عبر ثورة ثقافية يتم فيها نشر الوعي وتحرير الارادة الشعبية ومقاومة التواكل والخوف والعجز والمحسوبية والاستقالة والرشوة والهوان، وغرس قيم جديدة تعيد للانسان شعوره بالكرامة وحاجته للحرية وتوقه لمنزلة تليق به. ومن المؤكد ان هذه المهمة ليست سهلة لانها ستجابه بكل ضراوة ولكنها حتما ستعيد الصراع الى إطاره الطبيعي وتوفر شروطا موضوعية لتحرير إرادة الانسان وتفعيل المجتمع وعودة الحيوية اليه واتساع دائرة المشاركة في صنع القرار وتحقيق المشروع الحضاري. وفي هذه الحالة لا تكون الجموع الشعبية صاحبة الشأن، غائبة عن اي تحرك يتم باسم الدفاع عن قضاياها ومصالحها، بل ستكون حاضرة فاعلة مع طليعتها المثقفة والمناضلة، وعندها اذا تعسفت السلطة مع احد المناضلين فانها لا تجده وحده او في قلة، بل ستواجه تيارا عارما يفرض احترام إرادة المجتمع وقراراته كما حصل مع المواطنة الامريكية روزا باركس التي أشرنا اليها في بداية هذه الخواطر.
زياد ناهدي
' كاتب من تونس

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال