انحطاط الرسم العربي بين الحقيقة والتصور.. الرسام يزور موقفه الجمالي حين يقرر أن يكون الربح المادي هدفه

كنت اتابع طيلة السنين الماضية افكار فاروق يوسف بشأن ما يطرحه الفن العربي في هذه الحقبة ، وتحديدا أفكاره التي تذهب الى تقدير في منتهى الخطورة يؤكد انحطاط الفن في العالم العربي رصدا لنشاطات عدة وفحصا لعينات من هنا وهناك في الحياة التشكيلية العربية.

بدءًا ارى في مقالاته المقتضبة مادة تاريخية لبحث جمالي يمكنه أن يكون بحثا سوسيولوجيا ايضا لطبيعة الفن في البلدان العربية، لكنه على ما يبدو وبفعل التزامه في طبيعة المقال الصحافي فوّت الفرصة لنمو الأفكار واتساعها الى ما هو ابعد واشمل من ذلك، اتمنى له الوقت الكافي للقيام بهذه المهمة الصعبة.

في مقالته المعنونة 'رسامون ليسوا رسامين والرسم العربي في حالة انحطاط 'المنشورة في 'القدس العربي' 16 نيسان (ابريل) 2010 لفتت اهتمامي فقرة تكاد ان تلخص في حقائقها افكار المقالة كلها: (الرسوم مستعارة من الماضي لكن بطريقة قبيحة.. يغلب عليها التزوير .. الرسام الآن يزور موقفه الجمالي حين يقرر أن يكون الربح المادي هدفه..) إنه بحق وصف دقيق لحال المجتمعات العربية 'من المحيط الى الخليج' فالأفكار مستعارة من الماضي بشكل مشوه او مستقاة من الخارج بشكل مشوش...والفرد يزور موقفه من اجل البقاء بأية صيغة ممكنة وغير ممكنة... ولكن كيف حدث ذلك في عقل الفنان وبأية صيغة تسلل الخراب الى روحه؟ نحن نعلم أن في امكان الحاضر تشويه الماضي.. عبر تصفية حسابات تاريخية.. ولكن كيف يمكن للماضي ان يشوه الحاضر وما هي وسائله لذلك؟

يا ليت فاروق يوسف يتفق معي على أن الأعمال الإبداعية الماضية لم تعد غير ذكرى لتلك المرحلة (مرحلتها).. ايا كانت اطيافها وتداعياتها في الحاضر، بمعنى آخر أن الفعل الماضي بصيغته التي نراها الآن قد تم ضمن شروطه التاريخية والتي لن تتكرر بصيغتها الأولى مرة أخرى، وان تكررت فهي لن تفلت من حكم ماركس عليها؛ أن تكون مهزلة... وعبثا نبحث عما يستثني هذا الرأي. لهذا فإبداعات الماضي تحتفظ بقوتها وقدرتها على التأثير كونها لن تستهلك ذاتها بتكرار فعلها، بل تتولى موجات ردود فعلها قادمة من الأعماق السحيقة.. كم مرة تم تداول القصص الشعبية والأمثال والخرافات والأسطورة ذاتها، لكنها مع ذلك لم تبل.. فالحقيقة لا تبلى من التكرار!! بل من التشويه والاستئصال وهذا بعض مما يعاني منه الماضي بين يدي الفنان في العالم العربي.

ما هو حال الحرف العربي في خضم اللوحة التجريدية، وجيه نحلة مثلا وعشرات غيره، في الوقت الذي لم تعد اللغة تشكل فيه وعيا اجتماعيا وضميرا ثقافيا للامة؟
ما هو حال التمائم والزخارف المستقاة من اشيائنا الشعبية التي تعج بها لوحات الفنانين العرب المعاصرين هذه الأيام في الوقت الذي غدت فيه البيوت زنزانات من الكونكريت المسلح والقت بكل الماضي الى سوق الخردة؟ اسئلة مرة واكثر منها مرارة اجاباتها.. إنه حنين لماض ٍ أفلت من بين ايدينا فأمسكنا بأذياله كما يمسك الغريق بطوق نجاة.. النجاة من ماذا يا ترى؟ من ورطة الذات ولا شك.

هنا يأتي استنتاج الناقد بـ 'أن الرسام يزور موقفه التاريخي' وفي اغلب الأحيان دون وعي منه منساقا بفعل رؤيا جماعية يصوغها المال والآيديولوجيا وتجنبا لنسيان المشاركين في هذه الصياغة الرديئة اقول الظرف التاريخي، وحتى ان لم يكن الربح المادي هدف الفنان المعلن.

عرفنا من التاريخ أن الفنان غير العربي استعار من الماضي ما يناسب ابداعه المعاصر مما اوقعنا في سوء الفهم كونها استعارة من دون مقابل، من دون ضمانات.. في الحقيقة انه عاد للماضي من جديد ليفكك بنيته ويرهف السمع لصداه في شرايين الحاضر ويكتشف آلية اشتغاله واسرار قدرته على الرجع حتى يومنا الراهن، كل ذلك تم بضمانات الحداثة وشروط خلقها، أي بضمانات التاريخ على خلق ما يوازي بل احيانا ما يفوق.. لقد تمت استعارة الماضي ليس بصيغته المنجزة بل ما لم ينجز بعد من فكرة الماضي، ليس ما تحقق منها بل ما فات الماضي ان يحققه في وقتها.. سيسخر مني الرجل البدائي في مجاهل افريقيا لو قلت له انه تكعيبي وان تقابل الظل والنور في اقنعته لها نظرية عظيمة في الفن .. ربما يرشقنا بالنبال لو شاهد صورة طوطمه بتوقيع بيكاسو معلقة في متحف للفن الحديث!! .. لكنّ التكعيبيين قد فعلوها بجدارة تاريخية وبقدسية عظيمة.

لقد صيغت فنوننا الماضية على شكل حدوس مستمدة من الطبيعة ومن تشكيلاتها، كما يرى هيغل، والتي يُسبغ عليها دلالات الفكرة الجوهرية (الكلية، المطلقة).. لقد أوَّلَ فنانا الأوّلُ تشكيلاته حتى تبدو وكأنها منطوية على الفكرة ومحتوية لها.. وهو يسميها 'حلولية الشرق' ويضيف 'أن حرية مجردة ولامتناهية تطلق العنان لنفسها فيها' تلك الحرية لا يمكن تمثيلها كليا اذ يبقى على الدوام فارق بين الفكرة والتعبير.. فارق في التطابق بين الفكرة وشكل تجسدها الذي يفترض فيه انه يدل عليها .. مما يجعل هذا الشكل لا يمثل التعبير الصافي عن الجوهر .. ان ثمة مسافة لا تزال تفصل الفكرة عن تمثلها..' لهذا تبقى الفكرة قلقة، متبرمة تناور الشكل فتتجاوز حدوده...' في هذا الحيز الضيق و' بدرجة الصفر' كما يشخصه رولان بارت يولد الفن الذي لا يكف عن المغالاة بفكرته المتبرمة ، القلقة، المنفلتة عن اشكالها.

لا تكف الأفكار عن الطواف عبر التاريخ بحثا عن اشكال تسكنها وتستبطنها كما الأرواح تماما.
هنا يأتي دور المبدع ليصوغ لها ما يناسبها من جديد، يبعثها.

لقد كانت لنا تجربتان صادقتان في هذا المضمار في ما توصل اليه جواد سليم في العراق ومحمود مختار في مصر... ومن مصادفات الدهر ومفارقاته انهما فارقا الحياة في منتصف العمر وفي عز تألقهما وقمة نضجهما.

لقد وهب الفنان المعاصر معنى جديدا لفنون الماضي للفنون البدائية ايضا في إعادة صياغتها مستوعبا فكرتها عن الحياة وقدرتها الطبيعية على التجسد بأشكال اخرى، فيما مارس الفنان في العالم العربي العسف والاكراه ازاء الفكرة وغصبها على ان تتواءم مع اشكال خاوية ومستهلكة مما سحق كيانها وهرس طبيعتها. 
يحيى الشيخ

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال