أحوال المجرة.. النوم في حقل الكلام. صراع في السماء. عن المغامرة والجمود

النوم في حقل الكلام!
نمت في توقيت ووضع بالغي الغرابة. كنت مستيقظًا تواً وشارباً قهوتي، عندما تعلقت على الكوبري (الجسر الطويل) بين السماء والأرض. كان الرئيس يخطب بصوت عائد من المرض يقاطعه عمال بصحة جيدة، بين جملة وجملة من الصوت المنغم، هدير هتافات بآيات من الشكر النثري والشعر الحلمنتيشي.
لا التوقيت الصباحي، ولا القهوة، ولا وضع الأسير في شارع مسدود الذي يجعلني أغلي بإحساس الإهانة الشخصية، ولا التباين الواضح بين إيقاعية صوت الرئيس المعروفة، وبرية الجماهير المحبة، لا شيء في هذا يفترض أن يجلب النعاس. لكنني نمت. بالحقيقة نمت. وأيقظني السائق أمام مكتب الطيران.
نمت، ربما، سعيداً بفسحة الراحة من أرض الصخب؛ حيث أستعد للسفر إلى إيطاليا، وهي ليست أقل كلاما؛ فالإيطاليون يصرون على التحدث إليك حتى وهم يعرفون أنك لا تجيد اللغة، وهم ليسوا أقل فساداً، لكن فسادهم منظم ومافياتهم تطـــــارد الأغنــــياء والفائزين باليانصيب والوارثين لثــروة مفاجئة، لكنها لا تمص العمال والمعوقين وتدعهم ينامون على الرصيف للمطالبة بحق بسيط. رئيسهم غير معروف وشره رئيس وزرائهم المزمن للمال منسجم مع غلمته، حيث لا يتورع عن مغازلة زوجة رئيس أقوى بلد في العالم أمام زوجها.
لا أعرف إن كان غياب الانسجام في اللحظة الحاضرة أم وجوده في اللحظة المأمولة ما جعلني أنام بعد ساعة واحدة من الاستيقاظ، في صباح لم يحدث فيه شيء؟!
صراع في السماء بين هتاف المعتصمين على الرصيف في شــــارع قصر العيني:'باسم ثلاثة مليون عاطل..حسني مبارك باطل باطل' وهتاف عمال اتحاد العمال في قاعة الاحتفالات بمدينة نصر: 'بالروح بالدم نفديك يا مبارك' مسافة أكبر من المسافة بين باب المندب وخليج الخنازير.
فارق في المعنى لا يمكن أن يحدث بين بشر يعيشون في وطن واحد.
وقوانين الفيزياء تقول إن المادة لا تفنى ولا تستحدث، فقط تغير في الشكل أحيانًا. الشجرة تتحول نفطاً والحديد يصير غبارًا يهبط على الأرض ويغذي شجرة، وهكذا.
إلى ماذا يمكن أن تتحول مادة كل من الهتافين بعد ملايين السنين؟ وكيف يتشابكان في الفضاء لحظة صدامهما بحاليتهما، قبل أن تجري عليهما تحولات المادة؟ وكيف يتلقى سكان الفضاء ضفيرة واحدة من الكلام المتناقض بهذا الشكل؟
كيف ينظر الله إلى بقعة صغيرة خلقها وخصها، على مدى التاريخ، بتسعة أعشار عجائب الكوكب؟!
عن المغامرة والجمود
دهشة سكان السماء من اختلاط خطابين، يصعدان معاً، وهما مختلفان بمسافة أبعد من خليج اليمن عن خليج كوبا، هي ذات الدهشة الي تتملك سكان الأرض حيال استعصاء الخطابين على التمازج.
مصر وطن من سبع سماوات وأرضين طباقاً، لا تلتقي إحداها مع الأخرى، ولا ترى إحداها الأخرى، ولا يراها الناس أو يحسون بها إلا من خلال مظهر وحيد: احتباس المرور وقت الخطاب ووقت المظاهرة، أضعاف احتباسه في الأوقات العادية.
يقول الرئيس، ومعه عمال يهتفون، شهود على صدق قوله وتقديره، إن مصر تسير في بر الأمان سيراً مطمئناً بعيدًا عن مغامرات المغامرين الذين قد يقودون الوطن إلى فوضى وانتكاسة، وإن هؤلاء الذين يحرجمون على خراب عشنا ليس لديهم البدائل، فقط ينتقدون ويستثيرون الناس من دون أن يحققوا لهم إمتاعاً.
والمغامرون لديهم البدائل التي لا يراها الرئيس ولا وزراء الرئيس ولا صحافة الرئيس ولا تليفزيون الرئيس. وقبل أن يظهر البرادعي وبعد ظهوره في كوكب المغامرين هناك خطط لمضاعفة الدخل من دون الحاجة إلى أية موارد جديدة.
بدائل المغامرين موجودة في خطة من كلمتين: احترام قوة العمل لدى شعب من ثمانين مليوناً بدلا من بيع المصانع ودفعه دفعاً إلى المقاهي، والمساواة، بحيث لا يُمنح قاتل واحد أرضاً بالمجان قيمتها مليارات، أو يمنح سعودي واحد مساحة زراعية تعادل بالشبر كل ما يزرع في المملكة!
المغامرون لديهم أرقام وخطط، لكن الذين لا يسمعونهم سيطالبونهم دائماً بالدليل.
ولدى الرئيس ورئيس وزرائه ووزرائه أرقام، ولدى لجنة السياسات أجهزة كمبيوتر يفتحونها كل عام في مؤتمرات الحزب، عليها رسوم بيانية كلها صاعدة باجاه الرخاء، ولديهم أيضا نداءات تترجى رجال الأعمال أن يتبرعوا لكفالة قرية فقيرة (كما الطفل اليتيم) أي أن اللاب توب الواحد عليه ما لا يلتقي من الكلمات!
المثل المصري يقول: 'أسمع كلامك أصدقك أشوف أمورك أستعجب' لكننا في عصر الكنولوجيا يمكن أن نستعجب من ملفين على لاب توب واحد: الزعيم الواحد والخفير الواحد والوزير الواحد لا يبحث عن الانسجام بين كلامه الشخصي، فكيف يكون الانسجام بين شخصين من كوكبين مختلفتين في المجرة المصرية العجيبة؟!
لا أحد يسمع أحداً. والتهديد من الموت الزؤام الذي قد يجلبه المغامرون يقابله الموت السريري المؤكد الذي وصل إلى حد تهديد مصر في أعز ما تملك: النيل، نيلها العظيم، الذي لم يعودوا يعرفون أين يسكن أو يقيم!
لكل هذا ينام المصريون على صخب هتافات التأييد والاستنكار، ماضين في طريقهم للانتحار بحرًا أو إلى مكتب طيران سعياً وراء قليل من الراحة في كوكب آخر.
عزت القمحاوي

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال