..أنهيت دراستي وبدأت في تلحين معزوفات مطالب الشغل. عديدة هي تلك المعزوفات، جمعت فيها كل طاقاتي ومواهبي الطبيعية والمكتسبة. كتبت مطالب باسم الوزراء، وباسم الولات ورؤساء الشركات، وحتى باسم عمدة بلدتنا. لكن معزوفاتي لم تجد أي صدى وقوبلت بالرفض، أو ربما بعدم الفهم. مع أنني كنت أكتب بلغة واضحة وسليمة. إنتهت بي مطالبي إلى بطالة خانقة، وأزمة نفسية أعظم من أزمة الحمار الوجودية. على الأقل، الحمار يأكل ويشرب ولا يسأل، أما أنا فلعنة أسئلة ابن عمي لا زالت تلاحقني. كل ما كتبت، وكل ما لحنت، رمي به في سلة مهملات المسؤولين ورؤساء الأموال.
فجأة أصبحت أنتمي إلى نخبة المتسكعين والمفلسين، وهربا من حظي المنحوس الذي حدثتني عنه العرافة، قررت الهجرة بإتجاه الشرق، إلى البلدان الغنية بالنفط والغاز. إرتفع سعر برميل البترول وإرتفع معه نسق أحلامي وتكاثرت. قلت حتما سأجد عملا طيبا هناك، وربما سأصير في يوم ما من أصحاب الأموال. ثم أن الهجرة ليست عارا أو عيبا. فهي ضرورة طبيعية 'وحياتية أحيانا، وربما الإنسان بطبعه مهاجر. فكم من البلدان أكتشفت وعمرت فقط بالهجرة.
إمتطيت الحافلة بإتجاه الشرق العربي، أين الشمس الحارقة والنفط الملتهب. حقيبة صغيرة، فيها قليل من الأمتعة وكثير من الأحلام. وبعد رحلة طويلة في صحراء الأنبياء والشعراء ، إنتهت بي 'في أحد العواصم العربية الغنية بالنفط. قبلها لم أكن أعرف معنى الغربة ولكنني إستنشقتها مع هبوب نسيم المساء ورأيتها مع غروب الشمس.
فمنذ إكتشاف هذا الشيطان الأسود، تزوجت سماء المدن خريفا لا ينجب إلا سحب دخان قاتمة تخنق الإنسان والطبيعة، ولم تعد أعين المواطنين ترى الإخضرار إلا في البطاقات البريدية القادمة من الشمال، حتى الميناء رحل عنه الصيادون والعاشقون والمسافرون، السفن المحملة بالنفط إغتصبت كل الأماكن الجميلة.
'ليس هناك الكثير مما يشد الإنتباه. فأنا لست سائحا، ولا باحث إجتماع' أو آثار، ولست أيضا مبعوثا دبلوماسيا سيحل أزمة من تلك الأزمات المختلفة التي إبتلي بها العرب كإبتلائهم بالنفط. فأنا باحث كبير لكن عن شغل، وأنا في رحلة طويلة وراء الخبز النظيف ومشتقاته.
عثرت على نزل يتماشى ومركزي الإجتماعي. نزل من خمس نجوم لكن تحت الصفر. غرفة أشبه بزنزانات المناضلين القدامى، ربما تصلح لكتابة مذكرات نيلسون مانديلا. فربما وبعد التعب والشقاء أصير في يوم ما عظيما كمانديلا، فقط عليّ أن أجد حقل نفط عوضا عن حقل الزيتون. وضعت أشيائي في زنزانتي، وخرجت أتسكع في بعض الشوارع كالقطط الليلية، إشتريت قليلا من الخبز. فمن واجبي إتباع سياسة تقشف مدقع، حتى أحقق إكتفائي الذاتي. فالتقشف سياسة إقتصادية معترف بها عالميا وأنا لا أمارس السياسة إلا في التقشف. فالصين مثلا، أصبحت بالسياسة نفسها من الدول العملاقة. جلست بعيدا، في أحد الأركان المظلمة، قرب الميناء، أشاهد السفن المحملة ببراميل النفط وألتهم خبزي، كنت وحيدا وبعيدا عن أنظار الطبقة الغنية، حتى لا أثير عطفهم عليّ، وبعيد أيضا عن طبقة الجائعين، حتى لا أستفز جوعهم. ولكن رائحة الخبز خانتني. فالجائعون يشتمونها حتى ولو على بعد أميال، فما هي إلا لحظات وشاب في عمري، يقف أمامي ويطلب النجدة بقليل من قليل خبزي.
قلت له: أأنت جائع؟
قال: نعم.
قلت له: أأنت عاطل؟
قال: نعم.
قلت له: أأنت ابن هذا البلد الغني بالنفط؟
قال: نعم.
قلت له: ما المشكلة إذن؟ برميل من النفط قادر على شراء سفينة من القمح.
قال: المشكلة أن بلدي يعاني عجزا في الميزان التجاري.
قلت له: الحمد لله أنه لا يعاني عجزا في الميزان الجنسي.
ضحك ضحكة صفراء وقال: نبيع نفطنا وكثيرا من صمتنا وقليلا من شرفنا لنشتري قمحا، حرق النفط سماء بلدنا وأعصابنا.
إلتهم خبزي، إنصرف وهو يقول: ليت حقول النفط كانت حقول قمح وثقافة.
عدت إلى زنزانتي، حملت أمتعتي، إمتطيت أول حافلة وعدت من حيث أتيت. عليّ أن أقرأ الخرائط جيدا قبل سفري القادم. يجب أن أسافر إلى بلد لا يوجد فيه نفط، ربما أحيا حياة كريمة 'وبعيدا عن ملوك النفط. بطونهم الكبيرة مملوءة نفطا وخمرة وعقولهم مغلقة بمفاتيح ذهبية. رحلت وأنا أسأل نفسي: لماذا إنقرضت كل فصائل الديناصورات ولم ينقرض هذا الفصيل من الملوك؟
'جليل دايخي - ألمانيا
التسميات
قصة