عدنان فرزات في 'جمر النكايات': العالم الروائي من خلال اللغة الشعرية

جمر النكايات هي الرواية الأولى للكاتب الصحافي عدنان فرزات .. وهي تجربة خاصة جدا ليس فقط في القضايا الاجتماعية والسياسية التي تعالجها، ولكن أيضا في اللغة الشعرية التي تحمل عالمه الروائي، وتقدم لنا شخوصه بشكل يحرص على الجمالية بقدر ما يحرص على التفاصيل الإنسانية الني تحول تلك الشخوص إلى شخوص من لحم ودم تظل بالذاكرة حية وباقية.

فحتما لن يقدر القارئ على أن ينسى الست 'هداية' التي تخرج لنا من ذاكرة الذات الساردة، أو البطل . تتناول الرواية واقعة هي مزيج بين حدث سياسي، ومنحى اجتماعي. حيث يرصد الكاتب قصة امرأة مسنة من العامة، تدخل انتخابات المجلس النيابي، بشكل مستقل، وتزاحم كبار المرشحين المتنفذين من دون أي دعم حكومي أو من الأحزاب الأخرى، وتقود حملتها الانتخابية في البداية مجموعة من الناس المهمشين والبسطاء و' الصعاليك'، ثم يتمكن هؤلاء البسطاء من استقطاب الشريحة المثقفة إلى جانبهم، لتبدأ احداث المنافسة الخفية بين رغبة الناس غير المعلنة بنجاح أشخاص غير محسوبين على التيارات السياسية، وبين متنفذين من هذه التيارات الذين يحاولون إسقاط المرأة في الانتخابات، بما فيها محاولاتهم استمالة صاحب حملتها الانتخابية أو بالتحالف معها، حيث كانوا يتسللون إليها تحت جنح الظلام طالبين ودها بعد أن اتسعت شعبيتها.

من خلال هذه التيمة السياسية،التي تدور أحداثها في حي شعبي بسيط، في مدينة دير الزور السورية - وهي مدينة صغيرة على ضفاف الفرات، غنية بأحداثها غير المستهلكة روائيا - يدخل الكاتب في روايته 'جمر النكايات' الى عوالم اجتماعية واتجاهات سياسية من منظار كاتب مستقل لا يؤمن بالتحزب لصالح فكرة بحد ذاتها، معتبرا ان كل تشدد في ذلك هو تطرف وان كان ليبراليا.

في سرد بضمير الأنا يقدم لنا الكاتب بداية رحلته إلى دير الزور، لحظة انطلاق السرد حين تعود الذات الساردة إلى البلدة.. تظهر النوستالجيا في بداية السرد من خلال تحية زمن مضى، يظهر الحنين ليس للحظة زمنية فائتة فقط، بل للمكان أيضا حين يرصد اللحظة الراهنة، ووصف المكان بدقة مع الاستعانة بالذاكرة الاسترجاعية أو ما يسمى بـ 'الفلاش باك' يقول في مفتتح الرواية: 'مساء الخير يا ذا الزمن الذي عاودني دون سابق تذكر.. مساء الخير وأنت تزورني في هدأة الوقت، منتهزاً انسحاب الشمس من أفق الأيام، تاركةً وراءها كل هذه العتمة.. مساء الحزن على أُناسك الذين يستلقون الآن بصمتٍ أزلي تحت هذا الثرى.. وعلى الذين غابوا في أروقة الحنين.. مساء النُّسَّاك على أشجار تنمو كمآذن الخشوع فوق ضفتي هذا النهر العجوز.. مساء الرهبان على بيوتٍ أبوابها مشرعة بحب للغرباء.. لكل الغرباء.. حتى أنا.

يكشف الكاتب كثيرا من القضايا المسكوت عنها في المجتمع، فنجد خطاباً ليبرالياً متفتحاً تجاه قضايا المرأة، فنجده يدين التحيز ضد المرأة، يدين أن تعامل المرأة ككائن منقوص الهوية، فقد جاء على لسان الذات الساردة ما يدين رفض المجتمع للمرأة حين ترغب في التقدم للانتخابات يقول : ' فبادرها بفجاجة ودون مقدمات: ترشيحك غير مقبول'..

كانت ثمة أخبار وصلت إلى المحافظة أمس، بأن السيدة هداية شبه مجنونة، وقد تسيء إلى الانتخابات إن هي دخلتها:
'هل تريدون أن نُمسْخِر انتخاباتنا.. أنتم تعرفون حساسية موقفنا'؟ قال أحد كبار الموظفين الذين استشيروا بشأن ترشيح السيدة هداية.

أحست السيدة هداية بطيور ترجم رأسها بحجارة من نار، ولأول مرة منذ سنوات مديدة من الصمت، تخرج عن وقارها صارخة باحتجاج في وجه الموظف الذي ارتجفت شفتاه منزاحة عن أسنان سوَّدتها السجائر:
'وما علاقتي أنا، إذهبي إلى المسؤولين'..
'سأذهب وهل تظنني أخاف منك أو من الأكبر منك؟'

كما يكشف لنا قضية أخرى من قضايا المجتمع المسكوت عنها، وهي العلاقات التي يمكن أن تربط شاباً مسلماً بفتاة مسيحية، فالذات الساردة التي تعود إلى دير الزور في رحلة حنين واستكشاف يذهب إلى منزل التي كانت حبيبته، حبيبته التي فرقت بينه وبينها عادات وتقاليد المجتمع، فعادل حين يمر أمام منزل رولا يقف مشتاقا ملتاعا، ويتذكر علاقته بها يقول: 'تدحرجت الإجابة على لساني عدة مرات ثم استرجعتها قبل أن أصل إلى بيت رولا فألقي عليه نظرة شجية أشعلتْ جذوة في قلبي القديم.. ثم ادعيت:
'آسف نور تعرفين أنني منذ عشرين سنة لم أزر المدينة.. يبدو أنني نسيت الشوارع'..
ذكاء نور أوقف استرسالي بصياغة كذبة جديدة:
'ولكنك يا خالي عندما وصلت إلى ذاك المنزل المعلق على بابه صليب توقفت فجأة كمن تحته هاوية'.

ورغم أن 'جمر النكايات' هي الرواية الأولى لفرزات إلا أنها جاءت لتعبر عن كاتب تمرس طويلا على كتابة السرد الصحافي، فقد جاءت لغة الرواية شاعرية ومكثفة، وجاء الوصف كتقنية فنية يصف بها داخل الشخصيات، ويصور العمق النفسي لهم قبل أن يقف عند الوصف الخارجي لها.

كذلك أفاد الكاتب من تقنية 'الفلاش باك' بشكل جيد، وقد مكنته تلك التقنية من اللعب بزمن السرد ما بين السرد الراهن والسرد الاسترجاعي، مع الحرص على الاستفادة من الكثافة الشعرية ذاتها في الحوار الذي جاء مكثفا وموحيا.

الكاتب: عدنان فرزات
الكتاب: جمر النكايات
دار النشر: دار صائب - سورية
عدد الصفحات: 146
هويدا صالح
*كاتبة مصرية

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال