النقاب والمآذن في فرنسا وسويسرا.. إخراج الخطأ من حدود مسؤولية الخاطئ أمام القضاء إلى المجال العام

'من المحتمل أن يكون عدد الفرنسيين الذين يعرفون أنه توجد في سويسرا أربع مآذن، وفي فرنسا ثلاثمئة وسبع وستين إمرأة منقبـّة، يفوق عدد الذين يعلمون أن المالية العامة أضاعت عشرين ملياردولار، نتيجة لقرار ' تقني' اتخذته السلطة التنفيذية '(سيرج حليمي). هكذا بدأت إفتتاحية الشهرية الفرنسية 'اللومند ديبلوماتيك' في مطلع نيسان (ابريل) 2010.

في الواقع، كان رئيس الجمهورية الفرنسية، أول من طرح مشكلة النقاب في خطاب ألقاه في 20 حزيران/يونيو 2009، دعا فيه إلى أصدار قانون تـُمنع بموجبه المرأة المنقبـة من الظهور في الأماكن العامة.

ولكن يبدو أن مثل هذا القانون، لا يتفق مع أحكام القضاء والدستور التي يستند إليها نظام الجمهورية. لذا صُرف، في حينه، النظرُ عن الأمر.

جرى، بعد ذلك، في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 2009، في سويسرا استفتاء فاز فيه الرافضون لأن تـُرفع المأذن فوق المساجد.
كان له صدى كبيرا في فرنسا، وتحديدا في الأوساط اليمينية المتطرفة.
لا سيما وأن الإستعداد للإنتخابات المحلية، في آذار/مارس 2010، كان قد بدأ.

ومن غير المستبعد، أن تكون النتائج المخيبة التي حصدها اليمين في هذه الإنتخابات، وراء العودة إلى المواضيع التعبوية القديمة، التي أثبتت التجارب فعاليتها، كمثل قضايا 'الأمن في الأحياء الفقيرة' و'الأصولية الأسلاموية'.

فالحملة التي كان قد أطلقها، وزير 'الهجرة والهوية الوطنية'، حول موضوع 'الهوية الفرنسية' أتسمت بالغموض وأرتاب بها الكثيرون قبل أن يتبيّن خواؤها.
وما أن إنتهت هذه الإنتخابات حتى عاد التداول من جديد، في أوساط السلطة، حول قانون منع النقاب.

وفي هذا السياق، الذي لا يخلو أحيانا من التشنج الإنفعالي، راحت وسائل الإعلام، بجميع أنواعها، ومنذ 2 نيسان/ابريل، تنشر تفاعلات إعتراض رجال الشرطة سيدة ً تلبس النقاب، بينما كانت تقود مركبة في مدينة نانط، ففرضوا عليها غرامة مقدارها 22 يورو، بسبب مخالفة مرورية، أستنادا إلى أن النقاب يعيق حركة السائق.

ولكن يبدو أن المسألة أعقد ُ من ذلك. فبقية القصة، تقول أن السيدة قابلت الصحافيين، وظهرت على شاشة التلفاز، حيث قدمت روايتها لما وقع لها، وأعتبرت أن الغرامة المالية التي تحملتها لم تكن مبررة، من وجهة نظهرها.

وما أن فرغت من ندوتها الصحافية في 22 و23 نيسان/ابريل، على التوالي، حتى طرأ تطور دراماتيكي، مثير للدهشة، تمثل بتدخل وزير الداخلية. الذي دعا الجـــهات المعنية، إلى إخضاع زوجها للتحقيق بتهم: تعدد الزوجات، والتزوير والإستفادة من الإعانة العائلية، عن غير حق، وإلى تجريده من الجنسية الفرنسية في حال ثبوت هذه التهم. ولقد كـُشف بالمناسبة، عن أن الرجل وهو قصابُ، ينتمي إلى جماعة دينية متشددة. ويحتجز أولاده ليلقنهم آيات القرآن.

كما أنه يسيء معاملة زوجاته، أو خليلاته، بحسب المعلومات التي يمكن العثور عليها في هذه الأيام، في الجرائد والمواقع.

إن ما يدعو إلى الإستغراب هو الصخب الإعلامي الذي أثارته، حادثة كان يمكن لها أن تنتهي بدفع غرامة 22 يورو.
ولكن السائقة المنقبــّة، أرادت غيرذلك. إذ لا يـُعقل أن يكون القصد من إتصالها بوسائل الإعلام، هو توجيه رسالة إلى الرأي العام الفرنسي، علـّه يقف إلى جانبها ويتعاطف معها ضد ما تدعي بأنه تجاوز سُـلطة ٍ من قبل رجال شرطة المرور.

ولكن يأخذك العجب كل العجب، أمام الإهتمام غير الاعتيادي، الذي أبداه وزير الداخلية بهذه الحادثة تحديدا.
وكيف أنه أرتأى أنها مناسبة لكي يعرض على الملأ، صورة نمطية عن الحياة العائلية التي يرضى بها، كما يـُفهم من إتهامات الوزير، المتشددون الإسلاميون.

فلو كان الوزير يملك أدلة تدين الزوج، لتوجب عليه أن يطبق القانون دون أن ينتظر وقوع الزوجة في مصيدة رجال الشرطة.

ومهما يكن، لا يعنيني ولا يهمني من هذا كله، ما قام به هذان الزوجان وما صدر عنهما من أقوال، فقد تكون لهما غايات ودوافع، لا شأن لأحد فيها، وهما مسؤولان أمام القضاء عما يفعلان، ولا يستطيعان بالقطع، في فرنسا، التنصل من حكمه.

ولكن المشكلة تكمن، من وجهة نظري، في إخراج الخطأ من حدود مسؤولية الخاطئ أمام القضاء، إلى المجال العام.
بمعنى الا يقتصر الأمر على محاسبة الشخص عن إنتهاكه للقانون فقط، ولكن أن يتم ايضا، تجهيز حملات للبحث والتفتيش، تطال جميع الأشخاص، في المجتمع، تحت حجة درء خطر الإخلال بالامن والنظام.

وكأن الخطيئة والجريمة، تسريان بين الناس عن طريق العدوى، أو أنهما تنتقلان بالوراثة، أو طبعُ من طبائع بعض الأعراق.

فأغلب الظن أننا حيال مواجهة الهدفُ منها، كما هو معلن منع النقاب وتطهير المجتمع من المتشددين الإسلاميين، حفاظا على أستقرار وأمن المجتمع. وهذا أمر لا خلاف فيه.

ولكن الإشكالية هي في النهج وفي كيفية التنفيذ. وبكلام أوضح، يتوجب الحذر، كل الحذر من المحاولات الدؤوبة من أجل التعميم والخلط.

غني عن البيان أن الفلسطينيين والعراقيين والأفغان، يتكبدون خسائر لا حصر لها، توصف عادة بالخسائر الجانبية، في الحرب الدائرة على أرضهم، بأسم مطاردة 'الإرهاب'.

علما بأن الوقائع على الأرض تدحض هذا التعليل دحضا قاطعا. ومن المرجح أن يكون إندفاع بعض المسؤولين في فرنسا، ضد النقاب، مبنيا ً على إعتقادهم الضمني، بأن هذه الظاهرة أنما تدل، بشكل من الأشكال، على وجود مشترك بين المنقبات وأزواجهن من جهة وبين 'الإرهابيين' من جهة ثانية.

ولكن هذا موضوع آخر. فما أنا بصدده، هو تسليط الضوء، على النتائج السلبية، أو الخسائر الجانبية، التي يمكن أن تترتب عن المواجهة التي قد ينجر إليها، في فرنسا أو في غيرها من بلدان الغرب، بعض الناشطين، المتحدرين من أصول عربية، بقرار منهم أو رغما عنهم.

أو كيف، أن أقلية قليلة، تقول عن نفسها أنها مسلمة ولها فهمها وقراءتها للإسلام، تـُقحم قحما، في معركة غامضة، أكثرية ً ساحقة ً متعددة الأراء والمفاهيم والقراءات. يقول عنها الآخرون أنها مسلمة، ولكنها لا تقول شيئا. 'وما جعل عليكم في الدين من حرج'.

خليل قانصو
كاتب لبناني
أحدث أقدم

نموذج الاتصال