«الشريط الأخير» في أوبرا دمشق.. أسئلة وجودية جارحة

ما الذي يتبقى من حيواتنا العابرة على هذه الأرض؟ سؤال وجودي جارح ومثير للإحباط طرحه المخرج أسامة غنم في عمله المسرحي الأول "الشريط الأخير" الذي قدّمه أخيراً في دار الأوبرا في دمشق عن نص للكاتب الايرلندي صموئيل بيكيت بعنوان "شريط كراب الأخير". والعرض تم إنتاجه وتقديمه للمرة الأولى في أواخر العام الفائت، وهو الثاني من نوعه بعد "المرّود والمكحلة" ضمن إطار مشروع "المسرح الشاب" الذي يرعاه ويموّله المعهد السويدي للدراسات الدرامية ومؤسسة سيدا بإشراف من الدكتورة ماري إلياس.
نقرأ في نشرة العرض: "كتب بيكيت مسرحية "شريط كراب الأخير" في العام 1985، وفي ذهنه صوت ممثل خاص، وذكرى امرأة كان يحبها في شبابه، وعلم أنها تعاني من مرض السرطان، وقد تحدى بيكيت في هذه المسرحية عناصر المسرح التقليدي كافة، ابتداءً بالحوار مروراً بالزمن والفضاء وصولاً إلى الشخصية، حيث تمثّل المسرحية اقتراحاً كان الأول من نوعه تاريخياً لتقاطع الدراما الإذاعية مع الأداء الحي، إضافة إلى كونها عملاً تحليلياً عن علاقة الإنسان بالآلة، ومواجهته الادمان والشيخوخة، فالممثل هنا فاعل بقدر ما هو موضوع، والحوار يتحوّل إلى مونولوغ، والمونولوغ يغدو شكلاً من الحوار".
ينتمي "الشريط الأخير" إلى عروض الممثل الواحد (المونودراما) ويتمحور حول شخصية كراب، وهو رجل في السبعين من عمره يعاني من العزلة والعجز، ويحاول الهروب من معاناته باستحضار ذكرياته عبر شريط كان قد سجّله بصوته قبل ثلاثين عاما، وفيه يلقي الضوء على سيرة حياته، ويتحدث عن امرأة كان يعشقها في سنوات شبابه، وتختلط صورة الحبيبة بصورة آنا كارنينا، بحيث تضيع الحدود الفاصلة ما بين المتخيل السردي وواقع الشخصية المفترضة في العرض.
قام بدور كراب الفنان محمد آل رشي، واستطاع بأدائه المميز أن يمنح الشخصية حضورها الخاص من خلال جملة من السمات والملامح الظاهرية والسلوكية التي عكست بنية نفسية ذات خصوصية واضحة، فملامح الكآبة والبؤس المرسومة على الوجه والبادية في طريقة ارتداء الملابس، والحركة الواهنة والرتيبة التي تقطعها نوبات من الغضب المفاجئ عبّرت عن حالة الإحباط والتذمر التي تعيشها هذه الشخصية في عزلتها القاتلة، أسلوبه المتأني والمتلذذ في أكل الموز حمل مؤشرات عن خيانة الجسد، إغماضة عينيه المتعبة وغيابه الكامل في صورة محبوبته حين تحضر مع شريط الذكريات، وعادة التواري وراء الكواليس (المطبخ) لتجرّع كأس من الخمر بعد وعد كان كراب قد قطعه على نفسه بعدم تعاطي المشروبات الروحية، عادة عكست حالة من الالتفاف على الذات وعدم المصالحة معها، لا سيما إذا اقترنت بكل التعبيرات الأخرى التي أشارت إلى شخص مشاكس، يناكف نفسه ويعاقبها بالعودة إلى ماضيه ورجمه، وعليه لم تكن شخصية أليفة أو قريبة من قلب المتلقي، لكنها استطاعت أن تأسره بكم العذاب الذي احتضنته، وحجم الأسئلة التي أثارتها.
سار العرض في خطين متوازيين ومختلفين من حيث الزمان والمكان والبنية، الأول خط الراهن والمنزل الذي جسده سلوك كراب الفظ إزاء نفسه وأشيائه وماضيه، وهو خط أشبه بالقوقعة غالبا ما اعتمد على الحركة والإشارة لا على الكلام، والثاني خط الذكريات وهو خط سمعي قوامه شريط مسجّل بصوت محمد آل رشي الرخيم، وفيه يتحدث بلغة شعرية جميلة، رسمت أمكنة مختلفة، وعكست رؤى وتطلعات وعواطف كراب في شبابه، وبانتقال الشخصية المباغت ما بين الخطين المتضادين، كان مناخ المشهد الواحد يختلف بشكل جذري، وينفتح جدل لذيذ ما بين المباشرة الفجة والشعرية الخالصة، جدل يطرح أسئلته العميقة حول ماهية الحب والفقد، الشباب والشيخوخة والعجز.
في هذا السياق كانت الأولوية لأداء الممثل لا لعمل المخرج، فقد اختار أسامة غنم الفصحى لتكون لغة للعرض، ولجأ إلى أسلوب المسرح الفقير كي يعكس حالة الإهمال والخواء العاطفي التي تعيشها الشخصية، فالفضاء المسرحي المعّتم اقتصر على كرسي ومكتب مضاء بمصباح كهربائي يتدلى من الأعلى، وبين مساحة الضوء والظل كان يتحرك الحوار الضمني بين المفردات، وتكبر منطقة الحنين لسنوات شباب راحل ومشهد حب فقدناه ذات يوم.
بطاقة
نص: صموئيل بيكت، إخراج: أسامة غنم، تمثيل: محمد آل رشي،
سينوغراف: رامي حمور،
إضاءة: ريم محمد، الأزياء: وسام درويش، مساعدة مخرج: ديما أباظة.
دمشق - تهامة الجندي 
أحدث أقدم

نموذج الاتصال