ما زلت إلى اليوم أستعذب استعادة أسئلة شكّلت جزءاً من قضايا طفولتي الشائكة، ومنها مثلاً سؤال لم أتيقّن من جوابه إلى اليوم، حول كيفيّة عيش الملوك والرؤساء، وعائلاتهم، وهل هم مثلنا؟ وهل أجسادهم تشبه أجسادنا؟
أصابعهم عشرون، ولكلّ منهم سرّة؟ ثمّ هل يقضون حاجاتهم البيولوجيّة كما نفعل، وهل يدخلون بمفردهم إلى الحمّام أم ثمّة مرافقة وحراس شخصيّون؟ وبم يتكلّم أفراد العائلة في البيت، أقصد القصر؟ وبم يحلمون...؟
كانت تأتيني آنذاك إجابات ممن هم أكبر مني سنّاً، بأنّ الملوك يعيشون حياة، في جوهرها، تشبه حياتنا، وبأنّ أجسادهم هي تماماً مثل أجسادنا!تطوّرت أسئلتي، مع تطوّر وعيي، وظلّت إشارات استفهام عديدة تحيط بذلك العالم الساحر الذي بقي الكثير منه بالنسبة إليّ مجهولاً، فرحت أتساءل: كيف يحبّ الملوك والرؤساء؟ وكيف يغازلون حبيباتهم؟ وكيف يعاشرون ويتزوّجون؟ فلم أجد ما يمكن أن يمنحني قاعدة لأتخيّل، سوى كتاب ( في مضاجع الملوك) لـجولييت بينزوني الذي يتوقف عند ملوك أوروبة وأمرائها، ومع ذلك فقد أعطاني الكتاب فكرة هدأت معها تساؤلاتي. سلّمت بعدها بأنّ أولئك الملوك والأمراء والرؤساء أناس مثلنا، لكنّ الله أوكل إليهم تلك المهامّ الجسيمة، وبأنّ الأبهة التي يعيشون فيها ما هي إلاّ جزء من متطلّبات المسؤوليّة.انقضت سنوات طويلة على ذلك كلّه، وأنا أعيش مطمئنّة للنتيجة الأخيرة إلى أن قرأت منذ أيّام خبراً دحض مسلماتي كلّها، ونسف اطمئناني العتيد، والخبر يقول: مصر تستعيد إصبع أخناتون! إذن إصبع الملك كان مفقوداً، وكانت مصر تعيش كل ذلك الوقت حالة من القلق، وتناور واضعة ثقلها التاريخيّ لتستعيد إصبع الملك، ومصر هنا أيقونة لبلاد العرب كلّها التي تناضل لاستعادة أصابعها المسروقة. وصاقب هذا الخبر انعقاد المؤتمر الدوليّ الأوّل، في مصر أيضاً، لمناقشة حقوق الدول ذات الحضارات العريقة في استعادة آثارها المعروضة في متاحف العالم، والفريدة منها بخاصّة، وتشارك فيه بلاد عربيّة وأخرى أوروبيّة وآسيويّة، وكم أرجو ألاّ تنسى التوصيات استرداد مفقوداتنا التاريخيّة من مثل: منديل المسيح عليه السلام الذي مسح به وجهه وصارت صورته فيه، والذي اضطر المسلمون لافتداء أسراهم به، فحمل إلى بلاط الروم عام 314هـ - 926م. كما نريد صورته عليه السلام، التي تنسب إليها الخوارق، والتي أخذها الروم من بيروت عام 364هـ - 974م، ونريد رأس يوحنا المعمدان الذي أخذ من حمص 357هـ - 968 م. هذا، وقد صاقب الخبر ذاته الشروع بتنفيذ مخطط الاستيطان الصهيونيّ في القدس الشرقيّة، عبر تهجير أهالي حيّ الشيخ جرّاح، ووادي الجوز، من بيوتهم، والذي تضمّن تقطيع أصابع الفلسطينيين وآذانهم، وكبودهم، وقلوبهم، وتقطيع أصابع العراقيين، والسودانيين، واليمنيين...لكن، لا شكّ في أنّنا محكومون بالأمل، فإصبع الملك عاد بالسلامة بعد مئة وثلاث سنوات، وما ذاك إلاّ دليل على عودتنا المحتّمة، فلتكن أصابعنا جميعاً فداء لإصبع الملك، وأوّلها أصابع المتنبي التي كتبت: وكم ذا بمصر من المضحكاتِ.. ولكنّه ضحك كالبكا...بقيت غصّة في نفسي، تتعلّق باهتزاز اليقين الذي عشت عليه لسنوات، إذ تبيّن أنّ أصابعي التي تجهد ليلاً نهاراً بالأعمال الكتابيّة والمنزليّة والزراعيّة، لن ترتاح بلقاء ربّها، إذ سيأكلها الدود بعد قليل، وستصير عظامها مكاحل، أما أصابع الملوك فتبقى، ثمّ تسرق، ثمّ تستعاد، إنّها مختلفة بلا جدال.
شَهلا العُجيلي
التسميات
من الحياة