أرنستو غيفارا واجه رصاصات قاتلة وهو يقول: إقتل إيها الجبان إنك تقتل إنسانا، وغاندي نظر بحب إلى عيني قاتله ودعا له بالمغفرة.
خليل حاوي قتله الجميع بمسدسه الشخصي، وأنطوان سعادة تأرجح على حبل المشنقة وهو يصيح تحيا سورية.
فرج فودة كان على موعد مع الرصاص لأنه جعل للحقيقة الغائبة حضورا صريحا لا يحتمل.
رقد ناجي العلي ليكمل رسوماته على مهل في لندن لأن الرصاصة عشقت دماغه فرفضت الخروج ولما انتهى من درز رقعة جديدة على ثوب حنظلة، أوقف عمل أدوات الإنعاش.
تناثر جسد غسان كنفاني في بيروت كرماد الحلاج في بغداد.
السهروردي ضاقت به الأرض فحجز موعدا في السماء ليكمل قصيدة أطربت النجوم وتراقصت المذنبات على إيقاعها وزغردت بنات نعش.
وخط جسد الحلاج على الأرض كلمة الله ، فقالوا شهد دمه بأنه مسلم، فرد أهل التشريع ولماذا لم يشهد دم الحسين بذلك؟ فيجيب أهل التأويل لأنه لا يحتاج التأكيد.
وما زال السجال مستمرا، حتى صار نهرا كبيرا من الدم الخالص.
بين هذا وذاك ندخل القرن الواحد والعشرين بكل وسائل التقنية والمعاصرة وبنفس العقل والروح.
تقودنا فضائيات هادية إلى الحقيقة المريبة، وتواكبنا فتاوى الموبايل والنت والتلفزيونات لتنظم حياتنا وتغمسها بالفضيلة والحق.
فما ان ننتهي ونشبع سخرية من إرضاع الكبير ونستريح من فتوى عدم جواز الاختلاط التي تهدر وقتا وجهدا وأياما في عقم السجالات السخيفة حتى تطل علينا فتوى المفاخذة التي تمنح الحق لشواذ الأرواح أن يستحصلوا اللذة من بين فخذي طفلة لم تبلغ الثالثة من عمرها.
وما إن نترك فتوى عدم جواز ركوب المرأة سيارة التاكسي في الليل لأنها خلوة غير شرعية، حتى يمطرنا الكثير من شيوخ الفضائيات ان كرة القدم حرام وتحريم اللغة الانكليزية لانها لغة غير المسلمين ولأن بها حرف (x) وتحريم جلوس المرأة على الكرسي والنوم بجوار الحائط لأنهما مذكران وتحريم قراءة الروايات والقصص لأنه لا يجوز للمسلم قراءة العبر سوى بقصص الأنبياء ومعجزاتهم وقصص القرآن الكريم ومعانيها وليس انتهاء بتحريم الأنترنت على المرأة بسبب خبث طويتها (تجاه الأنترنت) ولكن أجازوه بشرط حضور محرم (مدرك لعهر المرأة ومكرها) الجملة قيلت بالحرف وما زالت موثقة على اليوتيوب لمن يريد.
والعديد من الفتاوى الغريبة التي تكفر من يقوم بها وتدخله النار أو تحويله لهائم كافر لا يرتقي إلى فهم أهل العلم والافتاء يشك بكل ما حوله وحواليه فلا يجد من ظهير وسند سوى من يضع حول خصره الشاب حزاما لنسف الكفرة والتخلص من موبقات الدنيا. يمكن لنا فقط أن نراقب الفضائيات الدينية لأسبوع واحد لنملأ خرجا كبيرا من هذه التحريمات التي تضيق الحياة وتجعلها محشورة بزاوية معتمة مقيتة باردة تسمى الإيمان الفضائي على الغالب.
وها هي فتاوى زواج المسيار والفرند والمؤنس والعرفي والكاسيت، تتحول رويدا رويدا لتصبح منظومة لا جدل فيها في بعض المجتمعات محولة الدعارة المنظمة كحق مشرع من العناية الإلهية، دون أن يرف لعين المجتمعات الفاضلة جفن أو تهتز بها قصبة.
أليس الوصول إلى هذه النتائج كان من تراكم الفتاوى وغالبا المستفيد الأكبر منها هو من يشرعها أو يدفع ويحضن ويؤنس مطلقيها.
الكارثة إنه من باب الاستهجان والاستنكار والسخرية أو من باب التصديق والتحريض يتم تثبيت هذا النوع من التفكير، وترويجه واضاعة الوقت في الرد عليه.
وهنا يأتي دور أهل العقل والحلم والمعرفة من الوسطيين فيهدرون وقتهم على الرد على هذا التشويش المنظم. فلا ينتهي اسبوع وإلا فتوى من تلك الشاكلة تتداول في الأفق، وكأن الأمر منظم ومحسوب للإطباق على اي بصيص من مساحة التفكير.
وتغض الأنظمة العربية الطرف تارة لأن الموضوع أصلا يخدمها فلا أحد يقترب من عروشها او لتبلبل الناس أو لأسباب منها تملق الجماعات الأصولية المتشنجة وترك لها المجتمع لتنفس به مكبوتها وتشعر بأنها تنجز مهماتها المقدسة.
عود على بدء
إذا تأملنا قائمة صرعى الافتاء سنجد إن حسين مروة ومهدي عامل قتلا في نفس الشهر وبايدي نفس القتلة ولنفس السبب.
والطاهر جاوت ورفاقه قتلوا بأيدي من كتبوا وناضلوا طوال حياتهم ليحظوا بحقهم بالقول في الجزائر.
ونجيب محفوظ: طعن في رقبته لأنه أمسك يوما الغيب من زلعومه.
وعشرات المفكرين والمتنورين قضوا صمتا أو رعبا. قتلوا جسديا أو صفوا نفسيا رغم أنهم وجميع من سبق ومن في فصيلتهم باستثناء 'المدعوأرنستو تشي غيفارا' لم يحملوا سلاحا ولم يطلقوا نارا على أحد. وباستثناء خليل حاوي، الذي أطلق رصاصة واحدة على رأسه وهو يغني 'يعبرون الجسر في الصبح خفافا أضلعي امتدت لهم جسرا وطيدا'.
ترى هذه الجموع التي وجدت في الإعلام الجديد من الفضاء المباح إلى الانترنيت المستباح ماذا تريد لنا أن نقدس ونرى ونسمع ونشم ونهوى ونتصرف؟
فعلي بابا استطاع أن يسرق الأربعين حراميا، ويصبح شهريار - الذي نكح عشرات النساء وقطع رؤوسهن ليكن عبرة لفرط الذكورة - بطلا شعبيا في حكاياتنا بينما شهرزاد تواصل خياناتها مع مسرور.
عنترة العبسي أبو الفوارس المكر المفر، يقدم قرابين من الجماجم لعبلة في 'برقة ثهمد' وعبلة مشغولة برفو جوارب سيدها الذي ينكحها أنى شاء.
الزير الخطير يعلن حربا كونية على بكر، وكليب دكتاتورٌ يخط بدمه لا تصالح.
أربعون الف مسلم، تعانق دمهم المقسوم بين شيعتين في صفين نتيجة برهة ديمقراطية ابتكرتها عبقرية عمرو بن العاص سميت مجازا بالتحكيم.
الحجاج بن يوسف يصيح يا أهل العراق يا أهل الفتنة والنفاق، أرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها.
كل هذا الركام المستحلب من التاريخ العربي والإسلامي ويريد أولياء الأمر وعلماء الأمة وملوك الطوائف فقهاء المذاهب والملل والنحل أن لا نفكر به ولا نناقشه بل نتلوه كببغاوات مثيرة للاعجاب، ننفذه بغريزة القطيع وتتولى الفضائيات المدسوسة تسويقه إما بالتسليع والتمييع أو الترهيب وترسيب حصى ورمال الغابرين في مجاري الحياة، فلا نجد سمكريا ليفتحها ولا نعرف كيف نصرفها فلا يبقى لنا سوى أن نموت محقونين بسموم الفضائيات وشيوخها الاجلاء، أو ننفجر في محطات المترو ونحن نكبر على أعداء الأمة ونعبر الدار الفانية إلى دار الخلود السرمدي.
التسميات
تواصل