اختزال الإنسان وجعله ساحة للتجريب والاختبار بحجة مطالب العصر

(1)
يمكن أن تكون البداية، أعمال النحّات السويسري المشهود (جياكوميتي)، الذي اعتمد الأسلاك في نحته، للتعبير عن مأساة الإنسان المعاصر.  لقد حقق في حقل النحت، مبادئ عن الجمال المذكر والمؤنث - التي حققتها الحضارة المعاصرة في الحياة العملية - بتبديد الدهن، واللحم، من الأجساد البشرية.. إن الجسم البشري قد حُوّل - بهذا الشكل - إلى مقياسٍ واحد، فأخذ أشكالاً محددة، جافة، لا تزيد على حجم سلك حديدي..
هذا ما يحكيه الأديب الروماني (كونستانتان جيوروجيو) في روايته المعروفة (الساعة الخامسة والعشرون).. ولقد مضى على احتجاج الرجلين: النحات، والأديب، أكثر من نصف القرن، ولا تزال عملية اختزال الإنسان ماضية في طريقها، تحت مظلة المطالب الحضارية، ومقتضيات السرعة، والاقتصاد، والإنجاز.. ولا يزال الإنسان في مطالبه الحيوية، والوجدانية، والحسية، والروحية.. في علاقاته الاجتماعية، وفي وضعه الحضاري.. ساحةً للتجريب والاختبار، من أجل الوصول إلى تلك الحالة، التي لا يستهلك فيها طعامًا، مستغنيًا عنه بالحبوب والأقراص، ولا يمارس حبًّا وأشواقًا، لأن إفرازاته الجنسية، يمكن أن  تتحقق من أقرب طريق.. ولا يأوي إلى بيت، أو زوج، أو ذرّية، لأن استمرارية الحياة بالمعدلات المرسومة، لن تسمح للرجل أن يتزوج على هواه، وينجب كما تملي عليه رغباته، ونزوعه الإنساني.
الاختزال في كل مكان، وعبر كل ممارسة، وكأن الحياة البشرية، قد تحولت إلى ورشة كبيرة، أو حقل للتجارب العلمية، من أجل الوصول إلى أقصى درجات الإنتاجية، المتوخاة من الإنسان، في مقابل أقل قدر ممكن من الاستهلاك في الزمن، والطاقة، والرغبات، والدوافع، والميول، والأشواق.
اختزال في الجسد.. إذ يكفي، أن يعيش الإنسان، بأقل وزن ممكن.. تكفيه الكيلوات الأربعون أو الخمسون، بل إنها تضمن له قدرة أكبر على الفاعلية والإنجاز.. اختزال في الرغبة الجنسية، تكفي معها نظرية كأس الماء، التي نادى بها  المنظرون الماركسيون يومًا، والتي تتمثل بإفراغ سريع للشهوة، من أقرب طريق، أسوة بما يحدث إزاء إلحاح العطش، للانصراف، من ثم، وبعد تفريغ الشحنة المقلقة، إلى العمل والإنتاج.. اختزال في الأحاسيس، والمطالب الحيوية، إذ تكفي ثلاثة أقراص في اليوم، للتعويض عن الطعام،  ويكفي فيلم تليفزيوني، للتعويض عن رحلة في الهواء الطلق.. وتكفي زجاجة عطر مركز، للتعويض عن النزهات الدورية، في الحدائق والمتنزهات.. اختزال في العلاقات والممارسات الاجتماعية، إذ تكفي حديقة واحدة، لكل مجموعة سكنية، وتكفي تحية سريعة عابرة، بين الجار والجار، بدلاً من تبادل الزيارات الطويلة، وتكفي الانحناءة المهذبة، بدلاً من عبارات المودّة والسلام، وتكفي ساعة واحدة مع الزوجة  والأطفال، في نهاية يوم من الكدح الصعب، بدلاً من تضييع الساعات الطوال بصحبتهم، وتكفي سنوات ما قبل الرشد، لكي يظل الأولاد ملتصقين بالأب والأم،  أما بعدها فإن عليهم أن يرحلوا، حيث لا يقتضي الأمر عند ذاك، سوى زيارات مجاملة متباعدة، لبيت العائلة، وقد لا يكون لهذه الزيارات مبرر أساسًا، لأنها مضيعة للوقت.. اختزال في الأحاديث المباشرة، لأن تكنولوجيا التواصل، ألغتها من الحساب.. وفي تبادل الأشواق، لأن عصر السرعة، لا يسمح بها !
اختزال في الروح، حيث لا وقت لصلاة أو صيام، وحيث تحجّم هذه فتغدو ممارسة روتينية، محددة بساعة ما، في يوم من أيام الأسبوع.. اختزال في الراحة والاسترخاء، حيث تضيّق  زحمة المطالب خناقها على الإنسان، وحيث يكفي قرص من (الأتيفان) أو (الفاليوم)، لا ستدعاء النوم، في الوقت المطلوب، واستعادة التوازن، والقدرة على العمل من جديد.
اختزال في المنظور الرؤيوي للعالم، حيث لا مبرر لتجاوز العالم، إلى ما وراءه، والمنظور إلى المخفي، والظاهر إلى الباطن، والملموس إلى الغيب، والقريب إلى البعيد، والأرضي إلى السماء، والدنيا إلى الآخرة.. إن هذا كله،  نوع من الترف الزائد، وأحرى بالإنسان أن يحيا في عالمه المباشر، وأن يكون واقعيّاً، في عصر يرفض المثاليات والأحلام، وينسحق كل من لا يركض مع الراكضين، للحصول على مغنم أكبر، وضمان لقمة أكثر إشعاعًا… عصر يجعل توقف المرء فيه لمراجعة الحساب، عرضة لكي يدوسه الآخرون، والمندفعون إلى أهدافهم، بحتمية جماعية، وإحساس بالضغوط  المنصبة على كل إنسان، وكأنها قدر لا فكاك منه.
اختزال في التفكير، لأن الحاسب الآلي، أغنى الإنسان عن التفكير.. وفي التأمل الذاتي، لأن عجلة الحياة، لا تسمح بالإيغال فيه.. واختزال في الإبداع، لأن ألعاب (الفلبرز) امتصت حاجة الإنسان إلى الإبداع..
اختزال في كل شيء .. في كل ممارسة.. في كل نشاط.. في كل ما يهم الإنسان في ذاته.. في تكوينه البشري.. في ملذّاته.. في مطالبه الحيوية، وأحاسيسه.. في آماله وأحلامه.. في أشواقه، ومطامحه الروحية.. في علاقاته الاجتماعية.. في رؤيته للكون، والعالم، والحياة..
الإنسان يتحول إلى سلك، والعلاقات الاجتماعية، تصير شبكة من الأسلاك.. والأنشطة الحضارية، تنبض عبر حُزم الأسلاك الدقيقة، التي لا ترى بدلاً من أن يكون محلها القلب، والعقل، والوجدان.
والتكنولوجيا التي لم يعد يقف أمام زحفها، شيء في العالم، تمضي مسرعة هي الأخرى، في مزيد من الاختزال.. إن "الغرامافون" الذي كان يدار باليد، بين دقيقة وأخرى، أصبح يدار بالكهرباء، ثم استغني عنه بجهاز التسجيل، ذي البكرات الكبيرة، ثم نفي هذا لكي يحلّ محله الكاسيت الصغير لجهاز الجيب.. وقد يجيء اليوم، الذي يكتفى فيه، بما تستوعبه ساعة اليد.. ولقد جاء فعلاً..
الاختزال في كل صغيرة وكبيرة.. والتكنولوجيا، تمضي أبدًا، للإعانة عليه بحجة أنه مطلب حضاري، وأن عصر البطء، والتثاقل، عصر الأدوات والأشياء الكبيرة، التي تحتل مكانًا أكبر، في حياتنا اليومية، مضى إلى غير رجعة.
الأجيال الجديدة، التي نشأت في مناخ الاختزال هذا، لا تدرك جانبه السيئ، لأنها لم تكد ترى إلا وجهه المتفرّد.  أما الأجيال التي سبقتها، والتي عايشت إيقاع حياة أكثر مرونة، وهدوءًا، وانسيابية، وسعادة، وفرحًا، واستقرارًا.. أخذت تشعر يومًا بعد يوم، بأن الحياة أصبحت محاصرة، أكثر مما يجب، وأن لعنة ما، تأخذ بخناق الإنسان.. وأن المسرات القديمة، قد ولت إلى غير رجعة، لتحل محلها مسرات من نوع جديد، لا يكادون يستسيغون لها طعمًا..
بل إن الأجيال الجديدة نفسها، رغم أنها لم تعرف شيئًا، عن حياة الآباء والأجداد، أو تذق سكينتهم،وفرحهم، وحلمهم الدائم، بالمزيد من السعادة.. هذه الأجيال، يكاد المرء، يلمس، كم أنها غير سعيدة، كم أنها قلقة، مشتتة، موزّعة، كم أنها لا تفرح، ولا تحلم، ولا تؤمّل بيوم آخر، يتضمن قدرًا مغايرًا من المسرة، أو البهجة.. إن أبناء هذه الأجيال، يركضون.. وهم حتى في ألعابهم، وهواياتهم،  والتيسيرات العجيبة، التي وضعت بين أيديهم، لا يتحققون بعشر معشار السعادة والغبطة، والفرح، يوم كان آباؤهم، في أعمار الصبا والشباب، يلعبون، ويمرحون، بوسائل وإمكانات أولية، تكاد تتضاءل خجلاً، أمام متع وألعاب ومسرات التكنولوجيا والآلات!
 (2)
إن استنكار حالة (الاختزال) هذه، في الحياة المعاصرة، لا يعني رفضًا للتكنولوجيا، وإنكارًا لخدماتها، التي لم يعد بمقدور إنسان ما، الاستغناء عنها، والتي تتأكد يومًا بعد يوم، كضرورة ملحّة، من ضرورات الحياة اليومية.. إن رفضا كهذا، لا يقول به إلا شاذ، أو بوهيمّي، أو درويش، أو مجنون، ولنتذكر، كيف أن عطلاً ما يصيب الطاقة الكهربائية في مدينة من المدن، أو حي من الأحياء، يجعل الناس، لا يكادون يطيقون اصطبارًا.  وما أن تستأنف الطاقة عملها كرة أخرى، حتى يتنفسون الصعداء، ويذكرون بالخير (أديسون)، وكل المكتشفين والمخترعين، الذين منحوهم نعمة الضوء، وتيسيرات الكهرباء..
إن الاستنكار، لا ينصب على التكنولوجيا، ولكن على طرائق توظيفها، وعلى تفرّدها في الساحة.. في التعامل مع الإنسان.. على المنظور، أو الرؤية الأحادية، التي يتم التعامل بها معها.. على الاستغلال، الذي قد تمارسه المؤسسات الاقتصادية، والشركات المنتجة، ودوائر الدعاية والإعلان، لتحقيق مكاسب خيالية في المبيعات، ليس على حساب جيب الإنسان فحسب، وإنما أيضًا على حساب أعصابه، وأشواقه، وأحلامه، ومطالبه الحيوية، ومنازعه الاجتماعية.. على الجنوح، أو الميل العظيم، الذي تشهده الحضارة المعاصرة، باتجاه المزيد من المادية، تعينها على ذلك قدرات التكنولوجيا المذهلة، المتزايدة يومًا بعد يوم.. على الاستلاب النفسي، الذي يحاصر الإنسان، ويأخذ بخناقه.. على التكاثر الشيئي الذي يطوقه، ويقذف به بعيدًا عن مواقعه المشروعة، لكي تحتلها الأشياء..
باختصار، فإن نقد التكنولوجيا، لا ينصبّ على المعطى التكنولوجي، وإنما على مفردات التعامل معه، وهي مفردات، تتضمن خطأ كبيرًا بحق الإنسان، وهو نقد يتوخى العودة إلى حالة التوازن المفقود، بين الآلية والإنسان،وليس نفي التكنولوجيا أساسًا، لأن هذا لا يقول به، إلا شاذ أو مجنون.
على العكس تمامًا، فإن النخبة، لا الناس العاديين، هي التي تنقد، وتعترض، وتطالب بالتريث قليلاً، من أجل إنقاذ الحياة، من حصار الآلية، والشيئية، والتكاثر.. من التسطح، والتضحل، وفقدان طعم الحياة.. إن المفكرين، والفلاسفة، والأدباء، والفنانين، وهم يقفون في قمة الحياة الحضارية للعالم المعاصر، هم الذين يرفعون أصواتهم بالاحتجاج.. بل إن العديد من العلماء أنفسهم، يضيفون أصواتهم إلى أصواتهم، مؤكدين على أن هناك اندفاعًا ما، غير مدروس، في مسيرة التكنولوجيا، وعلى أن هناك خطأ في التعامل، قد يدمّر الإنسان، ويلغي سعادته وفرحه من الحساب..
إننا نقرأ هذا كله في مؤلفات الفلاسفة والمفكرين.. في خطابات العلماء.. في روايات ومسرحيات وقصائد الأدباء.. وفي لوحات وأعمال الفنانين.. ولن يتهم أحد، أو يخطر على باله، أن أيّـاً من هؤلاء، يقف ضد التحضر، أو التقدم العلمي، أو ينادي بنفي التكنولوجيا، خارج حدود الحياة البشرية.
إنما هو - مرة أخرى - استنكار للجموح.. للاندفاع غير المرسوم.. للحياة العرجاء ، التي تركض على ساقٍ واحدة.. للابتزاز والاستلاب، الذين يتعرض لهما الإنسان، باسم التكنولوجيا، والتيسيرات، والإعلان! وهي - مرة أخرى - رفض للتسطح، والتضحل، اللذين يراد للحياة، أن تتشكل، وفق مطالبهما، فلا يغدو لها طعم أو مذاق، وتتخلى عن طبقاتها الأكثر إيغالاً وعمقًا، لكي تصبح وجهًا واحدًا، ذا طول وعرض، ولكنه لا يملك أي عمق على الإطلاق.. إنهم يحتجون على صيغ التوظيف، وليس على التكنولوجيا ذاتها.
إنها بوادر (الارتداد) إلى الفطرة، التي تلقت ضغوطًا فوق طاقتها، ولكنها ظلت، وستظل، تقاوم من أجل استعادة وظيفتها الكبرى، في العودة بالإنسان إلى سويّته، وبالحياة البشرية إلى توازنها المفقود.
 (3)
والحل الوحيد هو (الدين)، الذي  يوقف الردّة، ويحجم الاندفاع بالعين الواحدة، ويقضي على التشيّؤ، والتسطح، في مجرى الحياة، ويعيد إليها تألقها، ونبضها، وتدفقها.. يمنحها عمقها المطلوب، لكي تكون موازية تمامًا للإنسان، هذا الكائن المتفرّد.. ولكي تستحق فعلاً أن تعاش.
ليس أي دين.. وليس الأمر باجتهادات، أو وجهات نظر، أو أذواق وأهواء وظنون، تتلبس كتابات هذا المفكر، أو ذاك، ودعوات هذا الفيلسوف، أو الأديب أو ذاك، فتذهب حينًا إلى الشرق الأقصى، تستعير منه ضلال البوذية أو البرهمية، وتستجدي عبث اليوكا، وخرافات النيرفانا، كما فعل الروائي الألماني هيرمان هيسه في (سدهارتا)، وحينًا إلى الغرب الأقصى، لكي تسترجع تفاهات الوثنيات الأمريكية العتيقة، كما فعلٍ الروائي الأمريكي، جون شتاينبك في (البحث عن إله مجهول).  وترجع حينًا آخر إلى المسيحية نفسها، باحثة منقبة، علّها تجد في بقايا نسيجها المتهرئ، قيمًا تصلح للمحاولة، كما فعل المؤرخ والفيلسوف الإنكليزي أرنولد توينبي، في (دراسة للتاريخ)، وتمضي حينًا رابعًا، وقد أصابها الإحباط، من المحاولات الفاشلة، لكي تصنع دينًا على هواها، تلمّ أقسامه، وقطع غياره، من هنا وهناك.. وتخيط هنا،وترقّع هناك، فيما تسمية الديانة الثلاثية أو الرباعية!
وهي لا تنسى - أحيانًا - أن تلقي نظرة سريعة على الإسلام، لعلها تجد في بعض مفرداته، ما يعينها على استكمال محاولتها التوفيقية، أو الترقيعية تلك! كما فعل الأديب الأيرلندي برنارد شو، في (العودة إلى ميتو شالح)، أو الأديب الإنكليزي كولن ولسون في (سقوط الحضارة).. وغير هؤلاء كثيرون..
إن هذه الأهواء، والظنون، والمحاولات، التي تخضع الدين للمعطيات الوضعية، فيما يجعل الحالة مقلوبة، على رأسها، بدلاً من أن تمضي على قدميها.. هذه كلها، لا تعدو أن تكون عبثًا.. باطل الأباطيل، وقبض الريح، إذا استعرنا كلمات السيد المسيح عليه السلام، وهي في نهاية الأمر، لا تأتي بأية نتيجة قبالة جديّة الزحف التكنولوجي، وواقعيته الساحقة، ومنطقه الصارم، الذي لا يكون فيه حاصل جمع الواحد والواحد إلا اثنين، والذي تنتفي في شبكته، أية فرصة للصدفة، أو الاحتمال، أو الظن والهوى!
إن محاولات كهذه، فضلاً عن هزيمتها المؤكدة، ستمنح سلطة التكنولوجيا، فرصة أخرى لتأكيد وجودها، ولتفرّدها في حكم الحياة البشرية، وبالتالي، فإن أصحاب تلك المحاولات، سيخسرون مرتين، وسيخسر معهم الإنسان البائس التعيس، الذي ينتظر خلاصًا، ليس بمقدور أحد من الغربيين أنفسهم، أن يقدمه إليه.
الحل الوحيد ليس في الدين على إطلاقه، أو في مطلق دين، كما يصطلح المناطقة، بعد أن عبثت الأهواء بالأديان، فحرّفت كلماتها وتعاليمها، عن مواضعها، وغلّبت عليها الأهواء والمصالح والظنون، واشترت بآيات الله ثمنًا قليلاً.   كما أن الحل، ليس في ممارسة الخطيئة المنهجية، بتحكيم النسبي بالمطلق، والمحدود بالشامل، والعقل البشري، بمعطيات الوحي، عن طريق عملية انتقاء، وتلفيق، وترقيع يؤتى بقطعها، وتوصيلاتها من هذا الدين أو ذاك، ومن هذا المذهب الوضعي، أو ذاك، لكي يصاغ دين جديد، يمتزج فيه ما يجيء من عند الله، وما يهواه العبيد، ويكون ملائمًا لمطالب الإنسان.
إن الحل لن يكون إلا بدين متفرد واحد، هو الإسلام، صادر عن مصدر واحد هو الله سبحانه، ينطوي على نسيج متوحد في معطياته العقيدية، والسلوكية، والشعائرية، والتشريعية، على السواء، قدير على صياغة حياة متجانسة، ذات خصائص ومواصفات، مرسومة بالدقة، والإعجاز، اللذين يليقان بعلم الله سبحانه، ويستجيبان - بسبب من هذا كله - لمطالب الإنسان، والحياة البشرية في أكثر صيغها صفاءًا، ونقاءًا، وتوحدًا، وتوازنًا، ومرونة، واستقامة، وسعادة، وفرحًا، وإنجازاً، وعطاءًا، وعمقًا، وامتدادًا..
وليس في هذه الصفحات، مجال للإسهاب، في الحديث عن هذه المواصفات والشروط، التي يطول الخوض فيها، ويتشعب، وإنما التأشير فقط، على أن الاستجابة للتحدي التكنولوجي، الذي يسعى للتفرد بالإنسان، وإحكام قبضته على الحياة البشرية، هذه الاستجابة، لن تتحقق بالشكل المأمول، إلا عبر الإسلام، ومن خلاله:
أولاً: بسبب من صدور هذا الدين، عن الله سبحانه، ذي العلم المطلق، والخبرة اللامتناهية، بمطالب الإنسان، والحياة البشرية، وبسبب من مصداقية أصول هذا الدين، متمثلة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بينما في الأديان المحرّفة، يتداخل الإلهي بالبشري، بشكل عشوائي، وتفقد الأصول الدينية، توثيقها ومصداقيتها.
ثانيًا: إن هذا الدين هو قمة الخبرات الدينية، التي تشكلت عبر رحلة الأديان السماوية، في مسار التاريخ، والتي أخذت صيغتها الأخيرة المتكاملة في الإسلام، بجوهره التوحيدي الخالص.
ثالثًا: إن هذا الدين، بسبب من الشرطين أو الخصيصتين السابقتين، يحقق أقصى حالات التوازن والوفاق، مع الإنسان، والحياة البشرية، ويقدّم مشروعًا، أو برنامج عمل، إذا ما تم التعامل معه بالجدية، والصدق المطلوب، فإنه سيصوغ الحياة المتوازنة السعيدة، التي يطمح إليها كل إنسان سويّ، لأنها ستجيء على قياس الحياة البشرية نفسها، بكل أبعادها، وطبقاتها، وخبراتها المادية والجسدية، والحسية، والوجدانية، والروحية، والفردية، والجماعية.
رابعًا: وهذا يعني أن الإسلام، بدلاً من أن ينفي المعطيات التكنولوجية، التي تشكلت في الأساس للإعانة على الحياة البشرية، وإرفادها بالتيسيرات الأساسية، والتحرر من ضغوطها وضروراتها، فإنه  - أي الإسلام - سيتبنّاها ويؤكدها، ويوظفها في مجرى الحياة، بعد أن يضعها في مكانها الحق، على خارطة هذه الحياة، ويوازن معطياتها ومفرداتها، برؤيته الشاملة، وتأكيداته الروحية، وتجاوز الالتصاق بالمنظور القريب، إلى الآفاق الشاملة، التي تنطوي على البعد الغيبي، وتتطلع إلى السماء، وترى في الحياة الدنيا،  طريقًا إلى الآخرة، وتجعل من التجربة البشرية في العالم، تجربة نماء، وإعمار، وعطاء،  ليست كهدف بحدّ ذاتها، وإنما كخطوة إيجابية، صوب أهداف أبعد، تتمحور في عبادة الله وحده، والتلقي عنه، والتوجّه إليه ، في الصيرورة والمصير.
خامسًا: وتأسيسًا على ذلك، فإن التعامل مع التكنولوجيا، ومع الخبرة المدنية والعملية عمومًا، واحتواءها، ليس مجرد موقف، لا يرتطم بخطط الإسلام ومشاريعه وتوجهاته، بل هي جزء أساس من مطالب الإيمان، التي يتقرب بها الإنسان من الله سبحانه، كشفًا وتشكيلاً، وإنجازًا، وتعاملاً، والتي تمنح الحياة البشرية في ظلال الإسلام ، فرصاً أكثر فاعلية للتحقق، والتألق، والعطاء.
إن الإسلام -في ضوء هذا- لا يحيّد التكنولوجيا، أو يكتفي بالتصالح معها، وإنما يتبنّاها، ليس من أجل أن يكون الإنسان في خدمتها، وإنما لكي تكون هي في خدمة الإنسان، هذا الكائن المتفرّد، ذي التكوين والخصائص المتفوّقة، المتشابكة، الغنية، التي لن يكون كسبًا للإنسان، التضحية بأي جانب منها، في سبيل أي شيء في هذا العالم، والتي يجيء الإسلام، لكي يؤكدها، ويتبنّاها، ويمنحها فرصة التحقق، والفاعلية، والعطاء: (فطرت الله التي فطر الناس عليها  لا تبديل لخلق الله،  ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون )(الروم:30).
أحدث أقدم

نموذج الاتصال