تنشأ الخلايا السرطانية عند حدوث اختلال أو عطب بالحمض الريبونووي (deoxyribonucleic acid) المعروف اختصارا بالحمض النووي (د . ن . أ DNA) للخلايا الطبيعية، و هذا الحمض هو المادة الكيميائية التي تحمل التعليمات الموجهة لنظام و دورة حياة الخلايا، و يقوم بالتحكم في كل نشاطاتها بما في ذلك تكوين البروتينات و الأنزيمات اللازمة للعمليات الحيوية، مثل عمليات الأيض و التكاثر و النمو، كما يحتوي على جميع الشفرات الوراثية، و نحن نشبه والدينا لأنهما مصـدر الحمض النووي بأجسامنا، و إن كان دوره بالطبع يمتد إلى أبعد من المظهر الخارجي، و في معظم الأحوال يتمكن الجسم عند حدوث عطب ما بالحمض النـووي من تقويمه و إصلاحه بشكل طبيعي، غير أنه في حال نشوء التسرطن عجز الجسم عن إتمام مثل هذا التقـويم و الإصلاح لسبب أو لآخر، و على حد ما وصل إليه العلم الحديث، لا أحد يعرف على وجه الدقة و التحديد الأسباب الكامنة وراء حدوث مثل هذه الإختلالات و التي تدفع إلى نشوء السرطان، إلا أنه ثمة عوامل محددة قد تزيد من مخاطر العُرضة لنشوئه، مثل وراثة اختلال ما بالحمض النووي عن احد الوالدين كما في حالات الأورام ذات الأصول الوراثية، (مع أنه و غالبا ما تحدث الإختلالات خلال فترة الحياة و ليس قبل الولادة عبر الوراثة)، أو التعرض لكميات كبيرة من الإشعاع، أو التعرض المستمر للكيماويات السـامة بما في ذلك البنزين، و من المرجح أن تفاعلات مركّبة و معقدة ما بين العـوامل الوراثية و العـوامل البيئـية و أسلوب المعيشة، و العوامل المناعية بالجسم، (وكإحتمال عامل العدوى الفيروسية)، تؤدي إلى نشوء التسرطن.
و ثمة أجزاء من الحمض النووي تُعرف بالمورثات أو الجينات (genes)، و التي يحتوي بعضُ منها على التعليمات التي تتحكم في آلية النمو و الانقسام، و بالتالي التضاعف و التكاثر لإنتاج خلايا جديدة، و منها مورثات معينة تحث و تُعدل عمليات انقسام الخلية، و تسمى اصطلاحًا بطليعة المورثات الورمية (Proto-oncogenes)، و مورثات أخرى تُبطيء و تكبح الانقسام و التكاثر، أو تُعطي التعليمات للإفناء الذاتي للخلية و تسمى بالمورثات الكابحة للتورم (Tumor suppressor genes)، و قد يحدث التسرطن نتيجة اختلال أو عطب أو تغير جذري (Mutation) ببُـنية الحمض النووي، مما يدفع إلى تشغيل طليعة المورث الورمي دون ضوابط (مما يفقده القدرة على التحكم في نمو الخلية و تكاثرها)، أو يُبطل عمل الجينات الكابحة للتورم.
و بمعنى آخر، تقوم الخلايا بالتكاثر والانقسام و النمو بتوجيه من برنامج مشفّر بحمضها النووي، و تتلقى إشارة بالتوقف عند حدّ معين حيث يتوفر الكمّ المطلوب من الخلايا، فيتوقف الانقسام و التكاثر، و يتم تشغيل برامج تالية توجه الخلايا لإنتاج البروتينات اللازمة لتصبح خلايا بالغة قادرة على القيام بالمهام المنوطة بها، أي أن نظام الانقسام و النمو و العمل، يتوقف و يبدأ و ينشط حسب نظام متسلسل تعاقبي، و خالٍ من الأخطاء لينتج خلايا طبيعية سليمة، و ثمة عدة أوجه لعرقلة و مقاطعة تقدم هذا النظام المنهجي، فمثلا إن حدث قصور في إشارة التوقف و لم تعمل لسبب ما، تستمر الخلايا في الانقسام و التكاثر دون ضوابط و تكون كتلة شاذة متضخمة، أو عند حدوث قصور في عمل المورثات الكابحة، التي تنتج بروتينا معينا يكون مسؤولا عن توقيف الخلية عند وجود عطب بالحمض النووي، سواء لإصلاح الخلل أو لإفنائها ذاتيا عند تعذر الإصلاح، فحين لا يعمل هذا البروتين لسبب ما، تستمر الخلايا ذات الحمض النووي المعطوب في الانقسام، و إنتاج خلايا جديدة، مسببة المزيد من العطب في المورثات الأخرى التي يأتي دورها تاليا في العمليات الحيوية و التي تتحكم في نمو و تطور الخلايا، و ينتهي الأمر بنشوء التسرطن.
و فيما عدا عن بعض الإختلالات الوراثية بالحمض النووي، و التي تزيد من مخاطر نشوء بعض أنواع الأورام، لا يوجد سبب واضح و ظاهري للكثير من الإختلالات الأخرى، غير أنها قد تعود إلى أخطاء عشوائية تحدث عند تكاثر الخلايا، ففي كل مرة تتهيأ فيها الخلية للانقسام إلى خليتين جديدتين، تقوم بصنع نسخة عن حمضها النووي، الذي يتركب في ثلاث و عشرين زوجا من الصبغيات (Chromosomes)، و قد لا تتم هذه العملية بشكل متقن في بعض الأحيان، و تحدث أخطاء بالنسخ، و لا يعرف العلماء لماذا أو كيف تحدث مثل هذه الأخطاء في وقت بعينه و عند بعض الأشخاص دون غيرهم، و رغم وجود عدة إنزيمات بالخلايا تختص بالمراجعة و التدقيق و من ثم التصحيح، إلا أن بعض الأخطاء تمر أحيانا خصوصا عند مراحل النمو السريع للخلايا، حيث و قبل أن تتمكن الخلية من إصلاح اختلال الحمض، يمكن أن تتكوّن خلايا جديدة و تأخذ بالانقسام بدورها مع وجود الخلل و يكون أوان الإصلاح قد فات، و تكون التعليمات المتحكمة في النمو و الانقسام قد تغيرت بشكل نهائي، مما يؤدي إلى تطور نمو ورمي.
و ثمة نوع آخر من الاختلال، ينجم عن شرود الصبغيات و انحرافها عن التساكن بمواقعها الصحيحة، أي حدوث التبادل بالمواقع بين عُرى الصبغيات (Translocation)، و يعني التبادل حدوث تحول في المواقع ما بين جزئين من الحمض النووي، أي أن جزءاً من الحمض النووي بصبغي معين يتحول ليلتحق بصبغي مختلف غير الصبغي الصحيح، و بالتالي تتم إعادة ترتيب البرامج المشفرة بالحمض النووي للخلية مع ثبات الخطأ، و يتعطل النظام و السياق الموجه لأطوارها المختلفة، مما يؤدي بدوره إلى أن تصبح طليعة المورثات الورمية فعّالة دون تحكّم أو يتم إحباط عمل الجينات الكابحة للتورم، إضافة إلى حدوث ارتباك و تشتت في البرامج المنظمة للانقسام و التضاعف و النمو و التمايز نتيجة فقد أجزاء من شفرات التعليمات، و من ثم ينشأ النمو الشاذ الذي ينتج عنه نمو سرطاني، و تُعد آلية كهذه مسئولة عن نشوء أنواع متعددة من الأورام، مثل بعض أنواع اللوكيميا (حيث يحدث التبادل في صبغيات مختلفة عند كل نوع)، أو مجموعة أورام يوينغ التي تنشأ بالأنسجة الرخوة و العظام أو أورام العضلات الهيكلية.
و تجدر الإشارة من ناحية أخرى، إلى وجود أشكال أخرى من الاختلال الذي يصيب الحمض النووي، منها حدوث ما يُعرف بالانعكاس أو الانقلاب (inversion) مما يعني أن جزءا من صبغي ما تراكب بشكل مقلوب و ظل منعكسا عقب النسخ غير أنه لا يزال مرتبطا بنفس الصبغي، و منها أيضا حدوث الإضافات (additions)، أي أن جزءا من صبغي ما (أو الصبغي بكامله) قد تضاعف وتتواجد نسخ كثيرة منه بالخلية، و كذلك حدوث الفقدان أو المحو (deletion) لبعض من مقاطع حمض نووي بصبغي معين، و يظهر الصبغي ناقصا و مبتورا، و تؤدي جميع هذه الأعطاب في اغلب الأحوال إلى نشوء بعض أنماط النمو السرطاني.
ليست هناك تعليقات