يا طير المثل الأعلى!
لقد انفلت من رذيلة الخوف وتركتها في التراب موطئ القدم، وقلت لها: ويحك، لقد آن للشباب المصري؛ فهو مغامس في ماء الصواعق2، متطوح في اللجة الأزلية التي تغوص فيها الكواكب3، يطير بروح الشرارة، ويهبط بروح الغيث، ويلجم الجو ويسرجه، ويتعلم كيف يشوي عدوه في عين الشمس.
وكنت بطلا مغامرًا فخطوت في طريق الملائكة بهذه الفضيلة وحملك الجو؛ ولو أنك خفت وكنت على جناحي جبريل لا على طيارة، لخاف جبريل على جناحيه من حطمة هذا المعنى الترابي الطاغية الذي يحكم على الأحياء بالموت بلا موت، لأنه الذل والخضوع والرذيلة.
وحملك الجو إلى قبة السماء، وهنالك نظر العالم فرأى لمصر الناهضة علمها الإنساني يتنفس تحت الكواكب.
وحملك الجو إلينا، فلما رفعنا رؤوسنا لنراك، رفعناها في الوقت بين شعوب الأرض.
وضربت يا جناح مصر في الهواء، وأعنان السماء4 مملوءة بالزعزع والهوجاء والعاصف، والسماء في فصلها المكفهر الذي تخلع فيه كل ساعة وتلبس وتمزق5 وتطوي، فزدت بجرأتك في براهين القضية المصرية برهان قوة المخاطرة، وأضفت إلى منطقها وضعا جديدًا مفحما من روح التضحية.
---------------
1 كتبت في أول طيار مصري قدم إلى مصر من أوروبا على طيارته، في شهر فبراير سنة 1930، وهو الطيار صدقي وطيارته فائزة، وكان مقدمه يوما مشهودًا.
2 كناية عن السحاب.
3 كناية عن أجواز الفضاء.
4 نواحيها، جمع عنان "بالفتح".
5 كناية عن طبيعة الشتاء، من الغيم والصحو وما بينهما.
وطرت بين حياة وموت فجعلتهما يستويان في اعتقادك؛ إذ وصلت فكرة الموت بسر الإيمان، والحياة بسر العزيمة.
وكنت رجل أمتك بإنكار ذات نفسك من أجلها.
واتسعت للتاريخ بوضعك عمرك المحدود على الطيارة، وقذفك بها وبه في مسبح الأجل.
وتجردت للأدبية لتعطي بلادك: إما شهيد مجد في الآخرة، وإما شهادة فخر في الدنيا.
وكنت على طيارتك الصغيرة المتطاردة تحت الريح، وحولك روح الهرم الأكبر القائم بإرادة مصر وكأنه مسمار مدقوق في كرة الأرض بين القطب والقطب.
وأنت يا "فائزة" يا هذه الصغيرة الخارجة من مال صاحبها وجهده وعزيمته كما تخرج القوة من ضعف، أعلمت إذ أنت ترتفعين وتهبطين بين السحب كما تتواثب الفراشة على النور في روضة مزهرة، وإذا أنت تفتقين وتحوكين في ملاءة السحاب كأنك بمحركك الدوار تنسجين في السماء بمغزل، وإذ أنت بين صفق الرياح الهوج1، تحت السماء المدججة2، في كبة الشتاء3، كأنك مناظرة تجري بين العزيمة في الإنسان والعزيمة في الطبيعة، وإذ أنت بين ذئاب الأعاصير، ونمور السحاب4 وسباع الغيم ذوات اللبدة الكثيفة المتشعثة، كأنك بصوتك وأزيزك تطلقين على وحوش الجو مدفعًا رشاشًا يتركها صرعى.
وإذ تراك الريح فتقول عنك: ريح صنعها الإنسان. ويراك النجم فيقول: نجم أفلت من النظام الأرضي. وتراك الملائكة فتقول: ويحك يابن آدم، كأنك بما خلقه العقل تطمع منا في سجدة أخرى كالتي سجدناها لآدم يوم خلقه الله.
أعلمت إذ أنت كذلك يا "فائزة"، أن التاريخ المصري سيحولك من طيارة إلى آية كآية بدء الخلق، لأن فيك بدء الطيران في مصر؟
---------------
1 اضطراب الرياح المتقلبة.
2 المتغيمة.
3 كبة الشتاء: شدته ودفعته.
4 يقال: ريح متذئبة؛ إذا كانت تجيء من هنا مرة ومن هنا مرة كما يساور الذئب، فوضعنا من هنا كلمة ذئاب الرياح، والنمر من السحاب: قطع صغار متدان بعضها من بعض، تشبيها بجلد النمر، فوضعنا منها نمور السحاب.
سلاما يا فاتح الجو المصري، لقد أجالت الأيام قداحها فخرجت القرعة عليك، وأوحى إليك الواجب آية: بسم الله مصعدها ومجراها.
وطرت فإذا أنت بها عابر فوق الحاضر لتجيئنا من جانب المستقبل.
وهبطت علينا كأنك في بريد السماء كتاب مجد حي للوطنية الظافرة.
بل كتاب قصة رائعة ألفتها العواصف من فنين: ثورة الجو وثورة نفسك المصرية. وحكتها في صوتين: زفيف الطيارة وصرخة ضميرك الوطني. وجعلتها فصلين: أنت والمجهول. ألا حسبك مجدًا أن يحيا الشعب كله بضعة أيام في قصتك!
فعلى مهد الجو، وفي حرير الشعاع، وتحت كلة السحاب ولد لمصر يوم تاريخي.
وخرجت التهانئ التي طال احتباسها في القلوب المصرية لا يفرج عنها لأن سجانها ظلم السياسة.
واتجهت أفراح شعب كامل إلى الفتى الجريء الذي رمت به همته فوق هاوية الموت فتخطاها.
وتلقى شعور الأمة رسوله المقدام الذي لم يكن له ملجأ في خطاره إلا شعوره بهذه الأمة.
وارتج الوادي كله كأنه غمد يتقلقل حين يسل منه السيف.
ثم أهديت كلمة مصر لابنها الذي كتب في جوها الكلمة السماوية الأولى. وكانت ساعة تلاشى عندها الزمن فارتفعت منه أربعة آلاف سنة وهتف معنا الفراعنة: بوركت يا "صدقي".
لله درك أيما ابن عزيمة! كأنما كشفت أهاويل الوحي وهبطت في سحابة مجلجلة إن لم تحمل كتابا منزلا فكأنما حملت شخصا منزلا.
ولعلك رسول الغيم العابس لهذا الجو المصري الذي يضحك دائما ضحكة الفيلسوف الساخر في حين أصبحت الحياة قوة لا فلسفة...
ولعلك مبعوث البرق والرعد لهذا السكون النائم الذي يطوي كل يوم في طي النسيان ما حدث في اليوم الذي قبله...
ولعلك نبي الجدية والمرارة لهذه الحلاوة النيلية المفرطة التي كاد منها الشعب أن يكون سكر أخلاق يذاب ويشرب...
ولعلك تفسير مصحح لعقيدتنا المغلوطة في القضاء والقدر، أن القضاء أن تقدم بلا خوف، وأن القدر أن تثق بلا مبالاة.
أما -والله- لقد غمرت الشعب بموجة هواء جديدة جئت بها في جناحيك، ونفخت روح طيارتك المجيدة في القلوب فجعلتها كلها ترفرف كأن لك في ضلوع كل مصري طيارة.
مصطفى صادق الرافعي
التسميات
من وحي القلم