أصول المسؤولية الطبية.. تقرير وجود الموجب للمسؤولية. تقرير ترتب آثار وقوع الموجب. تحكيم العرف في الحكم على الطبيب بالحذق

إذا نظرنا إلى واقع الممارسة الطبية اليوم وجدنا أن مستند المسؤولية الطبية يعتمد على القوانين المعمول بها في كل مجتمع، وهي وإن كانت تعتبر من حيث المبدأ جملةً الأمور المشتركة المتفق عليها، فإننا نجد تفاوتاً واضحاً في تقويم وتقرير موجبات وآثار هذه المسؤولية.
فالنظم القانونية المعمول بها اليوم تمنع من مزاولة المهنة مَن لم يتأهل لذلك، ولكننا نجد تفاوتاً بين مجتمع وآخر في آلية تحديد هذه الأهلية.
ولا تسمح النظم القانونية للطبيب بالتعدي على المريض بعلاج أو تشخيص بدون إذنه أو إذن سلطة لها صلاحية وولاية خاصة أو عامة، غير أن هناك تفاوتاً بين مجتمع وآخر في تحديد ضوابط هذا التعدي.
ففي بعض البلاد يؤاخذ الطبيب الذي يقوم بإسعاف مريضٍ في وضع لا يسمح بانتظار الإذن أو الترخيص كما في بعض الكوارث ونحوها، في حين تجد بعض البلاد الأخرى لا تكاد تبحث في مسائل الخطأ الطبي.
وهكذا نجد هذا التفاوت حتى في أكثر البلاد تطوراً كما ورد في تقرير أمريكي عن الخطأ الطبي ورد فيه بيان التفاوت في نظام تحديد المسؤولية الطبية في الولايات المتحدة نفسها، حيث تتفاوت آليات إثبات الإهمال الطبي.
وتتفاوت تعويضات المرضى عن الضرر الحادث جراء الخطأ الطبي، بالإضافة إلى تزايد العبء الاقتصادي على الأطباء الذين يطالبون بدفع أقساط باهظة للتأمين ضد الخطأ المهني[1].
إن بحث موجبات وآثار المسؤولية الطبية لا بد من أن ينبني على أصول وقواعد تقرر جوازه واعتباره، وتضع الإطار العام لضوابطه ومعاييره.
ويمكن القول بأن الأصل العام الذي تنبني عليه مباحث المسؤولية الطبية تقوم على حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تطبَّب ولم يُعرف منه طب فهو ضامن"[2].
فهذا الحديث هو حديث الباب كما يقال، وهو أصلٌ في تضمين الطبيب الجاهل[3]، وموجب المسؤولية هنا يدور على جهل الطبيب سواء أكان جهلاً علمياً أم عملياً كما سنبين، ولقد نبه هذا الحديث على أمور يحسن تقريرها في هذا الموضع منها:

1- تقرير وجود الموجب للمسؤولية:
وهو هنا الإقدام على ممارسة الطب مع الجهل بهذه الممارسة.
قال ابن قيم الجوزية رحمه الله:" وقوله صلى الله عليه وسلم (من تطبب) ولم يقل: من طبَّ، لأن لفظ التفعل يدل على تكلف الشيء والدخول فيه بعسر وكلفة، وأنه ليس من أهله"[4].

2- تقرير ترتب آثار وقوع الموجب:
حيث قال صلى الله عليه وسلم (فهو ضامن).
قال ابن قيم الجوزية:"وأما الأمر الشرعي (أي في الحديث) فإيجاب الضمان على الطبيب الجاهل"[5].
فمتى وقع الموجب وهو الجهل وترتب الضرر كان أثر ذلك ضمان الطبيب لما أتلفه من النفس أو الأعضاء. 

3- تحكيم العرف في الحكم على الطبيب بالحذق:
حيث قال صلى الله عليه وسلم (ولم يُعرف منه طب)، والمقصود بالعرف هنا العرف الخاص بين الأطباء، وهذا مندرج تحت القاعدة الفقهية الكلية: "العادة محكَّمة"[6]، أي أن الأمور التي لم يأت الشرع لها بحدٍ معين فإنه يُرجع فيها إلى العرف، والمقصود بالعرف الخاص العرف الذي يكون سائداً بين أرباب المهن الخاصة كالحدادين والتجار والأطباء وغيرهم.
وقد حكى الإمام ابن قيم الجوزية إجماع أهل العلم على تضمين الطبيب الجاهل، وكذلك بالنسبة للتعدي فقد حكى عن الإمام الخطابي قوله: "لا أعلم خلافاً في أن المعالج إذا تعدى فتلف المريض كان ضامناً"[7].
كما قال الله تعالى:"وما كان لمؤمنٍ أن يقتل مؤمناً إلا خطأً ومن قتل مؤمناً خطأً فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلَّمة إلى أهله إلا أن يصَّدقوا "[8].
فهذا أصل في تضمين الضرر الواقع بالخطأ، وهكذا اجتمع لنا من الأدلة ما يقرر مشروعية المساءلة الطبية المهنية من ثلاثة أوجه هي: الجهل – الخطأ – الاعتداء، وسيأتي تفصيل هذه الموجبات في المطلب التالي بإذن الله.
وأما مشروعية المساءلة الطبية الأدبية فأدلتها هي عموم الأدلة الدالة على وجوب التزام هذه الآداب، ولعلنا نشير إليها يسيراً فيما يأتي.
إن ما تقدمت الإشارة إليه من تقرير أصل المساءلة الطبية من جهة، وبيان التفاوت الكبير الحاصل في تقرير موجبات وآثار هذه المساءلة ليعود بنا إلى التأكيد على أهمية تحرير المرجعية التشريعية والقضائية المتعلقة بهذه المسألة لتكون صادرة عن الشريعة منضبطة بقيودها ومنساقة ضمن كلياتها وأصولها العامة، لا سيما وأن فقهاء المسلمين قد أبدعوا في تحرير وضبط ممارسة الطب منذ زمن بعيد، وبلغوا في ذلك شأواً بعيداً يغنيهم عن الركون إلى غير الشريعة الغراء.
[1] انظر تقرير "The National Medical Error disclosure and compensation (MEDiC) Act of 2005", Senator Hillary Rodham Clinton and senator Barak Obama, September 28, 2005    
[2] المستدرك للحاكم (4/236) وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، وأخرجه ابن ماجة (3466)، وأبو داود ( 4586)، وغيرهما
[3] ويقاس على الجهل باقي موجبات المسؤولية الطبية كما يتبين لاحقاً
[4] زاد المعاد (كتاب الطب النبوي) – ابن قيم الجوزية – 4/127
[5] السابق
[6] القواعد الفقهية – محمد بكر إسماعيل - 151
[7] زاد المعاد (كتاب الطب النبوي) – ابن قيم الجوزية- 4/128
[8] سورة النساء – آية 92
أحدث أقدم

نموذج الاتصال