فضيلة الجمهور في ضمان تربية الفضيلة وحفظها وغلبتها على الرذائل

وقال صاحب سر "م" باشا: كان من بعض عملي في الحكومة سنة 1922 أن أراقب الحركات والسكنات، وأبث العيون والأرصاد، وأعرف المضطرب والمنقلب في أيام الفتن ونوازل المحنة، محافظة على الأمن، ومبادرة لما يتوقع؛ فكنت كالمرصد المهيأ بآلاته لتدوين حركات الزلازل.

وانتهى إلينا يوما أن راجفة من هذه الزلازل سترجف بفلان من أهل الرأي الحر؛ الذي يستقل ولا يتابع، وينتقد ولا يحابي، ويصرح ولا يجمجم، وأن قوما ثوروا عليه الغبار الآدمي من العامة وأشباه العامة، وأنهم يتحينون الوقت لتوجيه المكيدة له في شكلها المفترس من هذا الجمهور الناقم.

أما فلان هذا فرجل سياسي عنيد أضاع الحق كله لأنه لا يرضى بنصف الحق... وكلمته في السياسة كأنما تلقى على لسانه من الغيب؛ فلا يتحول عنها ولا يملك أن يتكلم إلا بما يتكلم؛ وقد ذهب بصوته أنه في قوم لا يسمعون إلا ما أرادوا، فهو بينهم كالحق المغلوب؛ لا يموت لأنه غير باطل، ثم لا يحيا لأنه لا ينتصر. وقد كان رجلا كالمصباح الوهاج فألقوا عليه الغطاء، فإذا هو في طبيعته ويبدو للناس بغير طبيعته، وتركه رأيه الحر الصريح كالنبي المكذوب يرد صدقه؛ لا لأنه غير صدق، ولكن لأنه غير مستطاع، أو غير ملائم.

ومن آفاتنا -نحن الشرقيين- أننا نستمرئ العداوة، وننقاد لأسبابها، ونتطاوع لها تطاوع الصغار بأنفسهم لما في أنفسهم؛ كأن المستبدين الذين كانوا في تاريخنا قد انتقلوا إلى طبائعنا؛ فرد الفكر على الفكر في مناقشة تجري بيننا لا يكون من دفع الحقيقة للحقيقة، ولكن من رد الاستبداد على الاستبداد، ومن توثب الطغيان على الطغيان؛ فهو الثلب؛ والطعن والتجريح، وهو الجفوة والخصومة واللدد، وهو المنازعة والعنف والتحامل؛ وهو بهذه وتلك شر وفساد وسقوط. والجدال بين العقلاء يبعث الفكر فينتهي إلى الحق، ولكنه فينا نحن يهيج الخلق فينتهي إلى الشر، والرد على عظيم منا كأنه يرد على منزلته في الناس لا على منزلته في الرأي، وكشف الخطأ عندنا تعبير بالخطأ لا تبصير بالصواب، واستلاب الحجة من صاحبها وإفسادها عليه كاستلاب الملك من مالكه وطرده منه... ومن ثم كان الدفاع بالمكابرة أصلا من أصول الطبيعة فينا، وكان الاضطهاد حجة للحجة العاجزة، وكان الإعنات دليلا للدليل الذي لا ينهض بنفسه، ومتى اعتبر كل إنسان نفسه إمبراطورًا على الحق... فلا جرم لا ترد كلمة على كلمة إلا بحرب.

قال صاحب السر: وكبر الأمر على الباشا، فجمع رؤوس المؤتمرين بذلك الرجل الحر، وأخذ يقلبهم تقليبه بين التودد والملاطفة، وقال لهم فيما قال: إن فضيلة الجمهور هي التي تضمن تربية الفضيلة وحفظها وغلبتها على الرذائل، وإن كل صحيح يكون فاسدًا إذا لم يكن الجمهور صحيحا، وإن غير العقلاء هم الذين يقبلون الحقيقة في يوم ثم يرفضونها هي ذاتها في يوم آخر، فإن ذهبت تجادلهم وتحتج عليهم بأنهم قبلوها, قالوا: هذا كان أمس... فكأنما الفاصل بين زمنين يجعل الشيء الواحد ضدين.

ثم سألهم: ما هو ذنب الرجل؟ فقال منهم قائل: إنه خارج علينا في الرأي. فقال الباشا: إن المعنى في أنه يخالفكم هو أنكم أنتم تخالفونه؛ فقد تكافأت الناحيتان، وخلاف بخلاف؛ فما الذي جعل لكم حق رده عن الرأي دون أن يكون له مثل هذا الحق في ردكم أنتم؟

قالوا: إننا الكثرة. قال الباشا: يا أصدقائي، إن خوف الكثرة من رأي فرد أو أفراد هو أسوأ المعنيين في تفسير رأيها هي؛ وعشرة جنيهات لا تعبأ بالجنيه الواحد. فإنها تستغرقه؛ بيد أن هذه ليست حال عشرة قروش يا أصدقائي...

نعم إن قطع الخلاف ضرورة من ضرورات الوطنية، ولكن إذا كان الأمر في ظاهره وباطنه كالخلاف في أيهما أطول: العصا أو المئذنة؟ فذلك جدال محسوم من نفسه بلا جدال.

إن أساس انخذالنا -نحن الشرقيين- في قلوبنا، إذ لا نعتبر المعاني العامة إلا من جهة أنها قائمة بالرجال، ثم لا نعتبر الرجال إلا من ناحية ما في أنفسنا منهم، ثم لا نعتبر أنفسنا إلا من جهة ما يرضينا أو يغضبنا، وقد لا يغضبنا إلا الحق والجد، وقد لا يرضينا إلا الباطل والتهاون، ولكنا لا نبالي إلا ما نرضى وما نغضب.

لستم أحرارًا في أن تجعلوا غيركم غير حر، فإن يكون الرأي الذي يعارضكم رأيا حقا وتركتم منابذته فقد نصرتم الحق؛ وإن يكن باطلا فإظهاره باطلا هو برهان الحق الذي أنتم عليه؛ ولن تجردوا أحدًا من اختيار الرأي إلا إذا تجردتم أنتم من اختيار العدل، فإن فعلتم فهذه كبرياء ظالمة، تدعي أنها الحق، ثم تدعي لنفسها حكمة، فقد كذبت مرتين.

اسمعوا أيها السادة: قامت بين اثنين من فلاسفة الرأي مناظرة في صحيفة من الصحف، وتساجلا في مقالات عدة، فلما عجز أضعفهما حجة وكعمه الجدال، كتب مقالته الأخيرة فجاءت سقيمة، فلم ترضه فبيتها ونام عنها على أنه يرسلها من الغداة بعد أن يردد نظره فيها ويصحح آراءه بالحجج التي يفتح بها عليه. قالوا: فلما نام تمثلت له المقالة في أحلامه جسما حيا موهونا مترضضا، مخلوعا من هنا مكسورا من هناك، مجروحا مما بينهما؛ ثم كلمته فقالت له: ويحك أيها الأبله! إن أردت أن تغلب صاحبك وتسكته عنك، فاحمل مقالتك إلى رأسه في العصا لا في الجريدة...

قال صاحب السر: وضحك القوم جميعا، وأذعنوا وانصرفوا مقتنعين، قد خلصت دخلتهم لذلك الرجل الحر وتنصلوا من جريمة كانت في أيديهم، وما جاء الباشا بمعجز من القول، ولكن تصويره للمسألة كان حلا لها في نفوسهم. فلما أدبروا تنفس الباشا كأنما خرج من البحر وكان يتعاطى إنقاذ غريق ويعاني فيه حتى نجا؛ ثم قال لي: إن هذا كان جوابا عن شيء في أنفسهم، ولكنه هو سؤال عن شيء في أنفسنا: ما الذي يجعل الناس عندنا يخشون المعارضة في الرأي الوطني حتى أنهم ليجازون عليها بهذه العقوبة الشعبية المنكرة؟ وما بالهم لا يعطون الرأي حكمه وحقيقته، بل يعطونه من حكم أنفسهم وحقائقها وشهواتها المتقلبة، حتى لترجع الفروق الضعيفة المتجانسة في أبناء الوطن الواحد وكأنها من الخلاف والمباينة فروق جنسية كالتي تكون بين إنسان من أمة، وإنسان من أمة أخرى تعاديها.

قلت: إن رأي الكثرة قانون يا باشا.
قال: هذا صحيح، ولكن بشرطين لا بشرط واحد: الأول ألا يخرج الرأي على القانون، والثاني ألا تكون الحقيقة في الرأي الذي يناقضه؛ ومحاولة إكراه المعارضة نقص للشرطين معا؛ ثم إن أساس الوطنية سلامة القلوب وصفاء النيات، واستواء الموافق والمخالف في هذا الحكم، ومتى وقع الخلاف بين اثنين وكانت لنية صادقة مخلصة، لم يكن اختلافهما إلا من تنوع الرأي، وانتهيا إلى الاتفاق بغلبة أقوى الرأييين، وما من ذلك بد.

الحقيقة يا بني أن الجماهير الشرقية ليست في تربيتها من الجماهير السياسية التي يعتد بها، إذ لا تزال في أول عمرها السياسي، وبهذا السبب وحده كان اختلاف الكبراء في السياسة لا يشبهه إلا الخصمين بغير شهود ولا قاض نافذ الحكم، فهو نزاع قوة تفوز بوسائلها، لا نزاع حق يستعلي بأدلته.وهذه المجالس النيابية الشرقية كلها صور ممثلة جافة، منقطعة النماء من أسبابها، كالفرع المقطوع من الشجرة، وإنما يتنضر الفرع ويثمر أثماره إذا قام بشجرته لا بنفسه، وما شجرة الفرع السياسي إلا الجمهور السياسي.

فسبيل الإصلاح في كل مملكة شرقية أن ينهض أهل الرأي من كل مدينة فيها بين عالم وأديب ومحام وسري، ومن كان بسبيل من هؤلاء، فيجعلوا لمدينتهم دار ندوة للاجتماع والبحث والمشورة، وقول "نعم" بالحجة وقول "لا" بالحجة. ثم يعلنون ذلك في جمهورهم وينزلون منه منزلة الأستاذ والأب والصديق في تعليمه وهدايته وإرشاده؛ وتتصل هذه الدور في كل مملكة بعضها ببعض، وتنتهي بالمجالس النيابية. وبغير ذلك لا يملأ الفراغ الذي نراه خاويا بين الشعب والحكومة، وبين الكبراء والجماهير، وإنما أكثر مصائبنا من هذا الفراغ؛ فهو الذي يضيع فيه ما يضيع فيه، ويختفي ما يختفي.منا قوم موظفون في الحكومة؛ لكن أين القوم الذين تكون الحكومة نفسها موظفة عندهم؟

"اعتذار": بهذا المقال انتهت أحاديث الباشا؛ فقد أنبأنا صاحب السر أنه سيكتم السر...
مصطفى صادق الرافعي
أحدث أقدم

نموذج الاتصال