ممالك الموز العربية: تشرذم الأنظمة وتيه الشعوب.. هل النظام العربي نابع من مبادئ وأسس إستراتيجية أم أنه يتسم بالعشوائية؟

تدهشني كثير من الكتابات في صحافتنا العربية وهي تورد مصطلح ما يسمى 'بالنظام العربي'، وتستفزني العبارة نفسها عندما يتلفظ بها زعماؤنا 'العروبيون' ضمن كلماتهم الرنانة وكذلك ما ينبثق عن جامعتنا 'الموقرة'، التي تجمعهم وتشتت الشعوب، من تصريحات مخجلة وهم يؤكدون عبارة 'النظام العربي'.. وأتساءل: هل لدينا فعلا 'نظام عربي'؟ وهل هذا النظام، إن كان نظاما، نابع من مبادئ وأسس إستراتيجية، أم أنه يتسم بالعشوائية؟
إن مصطلح 'النظام العربي' يدل وكأن لدينا دولا عربية بمختلف تسمياتها، ممالك، جمهوريات، سلطنات وإمارات، تنتهج نظاما عربيا واحدا؛ وهذا تأكيد باطل لما فيه من مغالطة الشعوب العربية ومواربة عن الحقيقة المأساوية المتجلية بوجود 22 'نظاما عربيا' لـ22 دولة عربية، بما فيها الصومال التي تنتفي فيها عناصر وجود دولة بالمعنى الحقيقي والعراق المحتل ناقص السيادة. فكلمة 'نظام' تدل على ضرورة توافر مؤسسية الدولة والإستراتيجية وعدم العشوائية في القرار.
غير أن واقعنا المر الذي نعيش فيه يثبت لنا أن لا نظام لدينا ولا مبادئ ولا إستراتيجية، بل كل ما لدينا، وأقصد هنا لدى الزعماء العرب، العشوائية والتخبط السياسي مع سبق الإصرار.
وتتجلى أبهى صورها فيما تلفظه الجامعة العربية 'الصماء' من قرارات مخزية غير جماعية، ومواقف متخاذلة للزعماء العرب من القضايا العربية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية وخصوصا ما يعانيه أهالي غزة من مآسي ومحن وموت بطيء، وكذا مواقفهم من اعتداء الكيان الصهيوني على قافلة الحرية.. فمنهم من ندد وأدان وشجب، وهذا كان أقصى ما استطاعه فسجل موقفا. ومنهم من صمت متعمدا، لأن المسألة فيها تركيا 'العثمانية' فسجل موقفا. ومنهم من لم يبال بذلك حتى، فسجل أيضا موقفا. ومنهم، ومنهم.. لن نفلت من الأمر ما دامت 'اللاديمقراطية' تجثم على أراضيهم؛ فهم في مواقفهم تلك لا يعبرون إلا عن أنفسهم وما يدور في رؤوسهم حسب الوضع والعلاقة الشخصية فيما بينهم، ولا يعبرون عن إرادة شعوبهم.
لذا، فإن مصطلح 'النظام العربي' ما هو إلا تعبير عن عجز القادة العرب في اتخاذ قرار موحد، ويتحول إلى 'زكيبة' يتوارون فيها خوفا من تبيان تفككهم. فهم يخترعون أنظمة دولهم التي 'يملكونها' من دون ملك مبدأ أو إستراتيجية.
فأين هو الزعيم العربي، أي زعيم، الذي يعبر عن آمال وطموحات وإرادة شعبه سواء في قضاياه الداخلية أم الخارجية؟
وأي زعيم عربي نعرفه لديه نظام ومبادئ قد تمسّك وآمن بها طوال عقود من فترة حكمه ولم يكن يتقلب حسب الطبخة كما يُقلب السمك في المقلاة.. تارة مع، وأخرى ضد وثالثة في ضياع وحيرة!!
إن مجزرة 'مرمرة'، وقبلها حوادث كثيرة، قد جاءت لتدحض نظرية 'النظام العربي'، وعززت من واقع أن هناك أنظمة عربية وليس نظاما واحدا كما يدّعون، بغض النظر عن المواقف المتباينة، فالمهم في الأمر هو انعدام وجود 'نظام عربي' الذي يتحدثون باسمه.
عندما ترك رئيس وزراء تركيا، رجب طيب أردوغان، قاعة مؤتمر 'دافوس' مخلفا وراءه رئيس الكيان الصهيوني، بيريز، بعد اتخاذه موقفا مبدئيا وحازما من الأخير، إنما عبر فيه عن استيائه من كلام بيريز، من دون وجل من ردة الفعل، وما يفعله الكيان الصهيوني بالشعب الفلسطيني وتقتيل أطفال غزة في حربه غير المتكافئة مع 'حماس'، بعكس أمين عام الجامعة العربية، لا مبدأ يؤمن به، الذي فضل البقاء لتقبل الصفعات؛ وإلا كيف نفسر تردده وعدم انصرافه من القاعة!!؟.
وعندما طلبت تركيا اعتذارا من إسرائيل على ما فعلته الثانية من إهانة للسفير التركي لديها، وعندما اتخذت تركيا، بلسان أردوغان، المواقف الشجاعة التي لمسناها تجاه إسرائيل، فكلها تلك لم تكن مزاجية أو لحظة انفعال مؤقتة، بل كانت قضية نظام ومبدأ يؤمن به الحزب الحاكم في تركيا عبّر عنها أردوغان بأفعاله تلك، وإرادة الشعب التركي الذي ناصر وآزر قيادته الحكيمة لثقته به.
كم من الأحداث الأليمة والمهينة في الوقت ذاته، جرت وآخرها الاعتداء على قافلة الحرية لم نر أيا من أعرابنا، 'الأشاوس علينا'، قد اتخذ موقفا يرفع الرأس أو ينم عن نخوة أصيلة. حتى أن أيا منهم من لديه سفير في إسرائيل لم يتم استدعاؤه كتعبير عن غضب أو موقف سياسي، لكنهم تعاملوا مع الأمور وكأن شيا لم يحدث. وكدولتين 'عظميين' عند العرب، ها هو النظام المصري يفتح معبر رفح فجأة لأجل غير مسمى حفاظا لماء وجه 'الجارة الصديقة' إسرائيل.
وها هو النظام السعودي لا ينبس ببنت شفة، القضية تخص 'الدولة العثمانية'، ويشغل فقهاءه بفتاوى إرضاع الكبير وفطم الصغير. أما البقية الباقية من 'الأنظمة العروبية' كان أقصى رد فعل لها تنديد وشجب وإدانة لا تسمن ولا تغني من جوع، ويعلم الله كيف وإلى أين سيوارون أوجههم إن اعتدت إسرائيل على سفينة التضامن النسائية من لبنان 'مريم' لا سمح الله؟
فلا مبادئ يؤمنون بها، ولا إرادة شعب يعبرون عنها ولا إستراتيجية يسيرون في ضوئها، هكذا هي الأنظمة العربية تخبط وعشوائية ومزاجية..
يدرك أردوغان تماما، أنه كرئيس للحكومة لن يبقى طويلا في منصبه إلى أبد الآبدين.
لكنه سيظل قائدا مقداما في قلوب الملايين من شعبه وشعوب العالم العربي والإسلامي بمواقفه البطولية. رجب طيب أردوغان يؤمن أن مبادئه ومبادئ حزبه هي الباقية، وهي المعبرة عن الشعب التركي، وستبقى المواقف ذاتها تجاه قضايا الأمة، مناصرة للقضية الفلسطينية.
إن النظام التركي، وأشدد على كلمة 'نظام'، لا يؤمن بالزعامات الفردية بقدر إيمانه بالتوجهات الفكرية المبدئية، والوقوف بحزم أمام قضايا الأمة.. وهذا عكْس ما يحدث عند العرب الباحثين دومـــا عن القائد المخلص، بأي ثمن ولو على حساب الشعب، لا التمسك بالمبادئ. إن أردوغان لا يعتمد على إسرائيل ولا على القوى العظمى الخارجية، من أجل بقائه في السلطة وتمكينه في سدة الحكم مقابل ولائه لها.
فهو يعتمد على تلك الجماهير العريضة من أفراد شعبه التي أتت بحزبه، ومن ثم به، إلى السلطة عبر الانتخابات.
وهو في مواقفه الشجاعة تلك إنما يعبر عن إرادة شعبه وليس حبا في الظهور كما وصفته، للأسف، بعض الوسائل الإعلامية والصحف العربية المدعومة من أنظمتها البائسة مجاراة مع وسائل الإعلام الغربية والإسرائيلية مذكرة 'بعثمانيته'؛ وهذا عيب عليها!. لكن، نقول لهم: إن كان الأمر كذلك، فأين أنتم يا عرب؟ أرونا مواقفكم، فترونا معكم!!
نـادر عبد القدوس
أحدث أقدم

نموذج الاتصال