وحدثني صاحب سر "م" باشا قال: كنا في سنة 1920، وهي بنت سنة 1919 1؛ وقد اجتمعت الأمة على مقاطعة لجنة "ملنر" لا تكلمها، فجعلت السكوت ثورة، وأعلن الشعب أن كلمته في لسان الوفد ينطق الوفد بها نطق النبي بما يوحى إليه، فما يكون لأحد غيره أن يقولها، ولا أن يقول أوحي إلي، وأبى اللورد ملنر أن يصدق أن للمصريين إجماعا يعتد به، وأنهم دخلوا في السياسة دخولًا ثابتًا فرسخوا فيها، وأنهم أصبحوا مع الإنجليز كالإنجليز الذين يقولون عن أنفسهم في مثلهم السائر: ينبغي أن نكون أحرارًا مثل أعمالنا.
وزعم اللورد لنفسه، أن هذه الأحزاب المصرية لا يتفق منها اثنان أبدًا إلا كان بينهما ثالث يختلفان عليه، وهو الطمع في مناصب الحكم؛ واستخراج من ذلك أن المصري والمصري كشقي المقراض؛ لا يتحركان في عمل إلا على تمزيق شيء بينهما؛ فإن لم يكن بينهما "الشيء" لم يكن منهما شيء.
وذهب الرجل يتظنى ويحدس على ما يخيل له الظن، وقد حسب أن إنجلترا يحق لها أن تقول في المصريين ما يقول الله في خلقه كما ورد في الأثر: "إنما يتقلبون في قبضتي". وكما تقول اليوم لأهل فلسطين من العرب: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} [إبراهيم: 19], وكان اللورد هذا رجلا ممارس المشاكل السياسية، دخالا فيها، داهية من دهاة القوم، له في قلبه عينان وأذنان غير ما في وجهه كحذاق السياسيين؛ وهو يعرف أن سياسة قومه لا تدخل في شيء إلا دخول الإبرة بخيطها في الثوب، إن خرجت هي تركت الخيط وقد جمع وشد... فأراد أن يمتحن مذهب المصريين في إجماعهم على الاستقلال، وقدر أنه واجد من الفلاحين عونا له ومادة لمكره السياسي، وحسب الوفد صورة جديدة من طبقة "الباشوات" القديمة، ينزلون من الشعب منزلة اليد التي تمسك القيد، من الرجل التي فيها القيد، ويضعون معنى كلمة الحاجة في كلمة السياسة، ويقولون: الوطن وهم يريدون الجاه، ويقيمون الشعب كالسلم ينتصب قائما ليحمل أرجلهم الصاعدة عليه.
فجاء اللورد إلى مصر، فوجد الأمة كلها قد حذرت منه وتيقظت له، حتى نصحه رشدي باشا بأنه لن يجد في مصر هرة تفاوضه؛ ولكنه كان مستيقنا أن أذن السياسة الإنجليزية "كالرديو" لصوتين: صوت الدنانير وصوت الجماهير، فمر في البلاد يرسم على الهواء علامات استفهام، وانصفق عنه الناس وأهملوه، وكان يسير في دائرة الصمت التي مركزها أبو الهول، فبدأ وظل يبدأ حتى انتهى وما زال يبدأ... وساح في البلاد سياحة طويلة، وكأنه لم يسافر إلا من شفة أبي الهول السفلى إلى شفته العليا.
قال صاحب السر: وجاء اللورد لمقابلة الباشا، فمر علي مرور كتاب مقفل: لا أعرف منه إلا العنوان؛ غير أنه رجل بمقدار الرجل الذي يخالف أمة كاملة تكاد تحسبه مطويا على زوبعة، وترى له قوتين تحس من أثرهما الرهبة والإعجاب، وإذا تأملته قلت إن اللطف والظرف أضعف شمائله، وإن الدهاء والحلية أقوى مواهبه.
فلما لقيت الباشا من الغد، سألني: كيف رأيت اللورد ملنر؟ فقلت: والله يا باشا إنه كالضرورة؛ ما يتمناها أحد ولكنها تجيء.
فضحك الباشا وقال: يا ليت لنا -نحن الشرقيين- كل يوم ضرورة تصنع ما صنع اللورد؛ إنه كشف لنا في ذات أنفسنا عن حقيقة من أسمى الحقائق السياسية, وهي أن الشعب الذي يصر ولا يزال يصر يجعل الإغراء لا يغري والخوف لا يخيف.
ويا ليت الأمم الشرقية تتعلم هذا الصمت السياسي عن مجاوبة الكلمة الاستعمارية أحيانًا؛ فإن صمت الأمة المصرية عن جواب "ملنر" كان معناه أن قدرة الأمة هي المتكلمة كلامها بذا الصمت، تعلن للعالم أن الواجب الشعبي قد وضع قفله على كل فم.
وقد فسر اللورد هذا السكوت بتفسيره السياسي، فأدرك منه أن في الشعب أنفة وحمية وقوة، وأن حساب الضمير الوطني أصبح لهذه الأفئدة كالحساب الإلهي للنفوس المؤمنة: كلاهما مستعلن يخاف ويتقي، وكلاهما كلمة محرمة.
أية معجزة هذه التي جعلت كلمة الأجنبي تتخذ في أذهان أمة كاملة شكل قائلها، فاجتمعت لها البلاد على معنى الرفض، وأصبح كل فرد يعرف محله من الكل، وخضعت الطبائع بجملتها لقانون العزة القومية، الذي يلزمها ألا تخضع للأجنبي؟
إن الأمم بعض مسائل نفسية كهذه المسألة؛ فلو أن لنا خمسة دروس سياسية مختلفة كدرس "ملنر"، لكانت لنا في الإيمان الوطني كالصلوات الخمس.
والآن تعلمت الأمة أن الشعب العزيز هو الذي ينظر في فض مشاكله إلى الحل وإلى طريقة الحل أيضا، وقد كان "ملنر" هو أول أساتذتنا في تعليمنا الطريقة.
وهذا الدرس يجب أن يكون درسًا للشرق كله، فإن السياسة الاستعمارية قائمة فيه على خداع الطريقة في حل مشاكله، فيحلونها ويعقدونها في نص واحد؛ ويثبت الكلام الذي يتفقون عليه أن المراد منه زوال الخلاف، ويثبت العمل بعد ذلك أن المراد كان زوال المقاومة.
وفي السياسة الأوروبية موافقات دميمة كالنساء المشوهات، فإذا عرضوا واحدة منها على من يريدون أن يزوجوه... فأباها وفتح لها عينيه بكل ما فيهما من قوة الإبصار، أعفوه منها وقالوا له: سنأتيك بالجميلة، ثم يذهبون بها إلى معهد التجميل اللغوي، فيصقلونها ويصبغونها، ويضعون لها أحمر السياسة وأبيضها، ثم يعرضونها جديدة على صاحبهم ذاك، وما صنعوا ما به صارت الدميمة غير دميمة، ولكن ما به رجع غير الأعمى كالأعمى.
ولهم عقول عجيبة في اختراع الألفاظ، حتى لتكون شدة الوضوح في عبارة، هي بعينها الطريقة لإخفاء الغموض في عبارة أخرى. وكثيرًا ما يأتون بألفاظ منتفخة تحسب جزلة بادنة قد ملأها معناها، وهي في السياسة ألفاظ حبالى، تستكمل حملها مدة ثم تلد.
ولهم من بعض الكلمات السياسية، كما لهم من بعض الرجال السياسيين؛ فيكون الرجل من دهاتهم رجلا كالناس، وهو عندهم مسمار دقوه في أرض كذا أو مملكة كذا، ويكون اللفظ لفظا كاللغة، وهو مسمار دقوه في وثيقة أو معاهدة.
ثم ضحك الباشا وقال: إن أرضنا تخرج القطن، وسياستنا تخرج ألفاظًا كالقطن: لا توضع في المغزل إلا مدت وتحولت. وإذا ذهبنا نخالفهم في التأويل والتفسير، لم نجد عندنا المعجم السياسي الذي يملي النص، أتدري يا بني ما هو المعجم السياسي؟
أما إنه لو كان كتابا يألف من مليون كلمة، لذهبت كلها عبثا وباطلا وهراء، ولكنه ذلك المعجم الحي، ذلك المعجم الذي يتألف من مليون جندي...
مصطفى صادق الرافعي
التسميات
من وحي القلم