الشاعر أبو تمام وأرض الكنانة.. من بيع الماء إلى التربع على عرش الشعر. أصبُّ بحميا كأسها مقتل العذل

لم يبق بد من أن نبلغ بالكلام في هذا المعنى إلى مقطع الحق فيه، وأن ننفذ بتحقيقه إلى خاصته، وننتهي من خاصته إلى برهانه؛ فإن علماء الأدب قديمًا وحديثًا ألقوا خبر أبي تمام كلامًا مرسلًا بحري في الرواية على طرقها المختلفة، لا على التاريخ في وجهِهِ المتعين، ويؤخذ على أنه خبر كالأخبار إن صدق فقد صدق وإن كذب فهو على ما يجيء؛ إذ لم يكن يعنيهم من الشاعر إلا شعره، يحملونه عنه أو يأخذونه من رواته، أو يجدونه في ديوانه؛ أما أخبار الشاعر فهي لا تتصل بالكتاب ولا بالسنة، فتجتمع لهم كما تجتمع ويتناولونها كما اتفقت بما دخلها من الكذب والتزيد والتلفيق، وما يكون فيها مما يظاهر بعضه بعضًا أو ينقض بعضه على بعض؛ والمحقق منهم من يروي الصدق والكذب معًا ليخرج من التبعة، فلا بد من تبعة في أحد النقيضين؛ وليبرأ بصدق أحدهما من كذب أحدهما كما صنع ابن خلكان في سياقه خبر أبي تمام وهذا نص عبارته:
كانت ولادة أبي تمام ... بجاسم وهو قرية بين دمشق وطبرية، ونشأ بمصر، قيل: إنه كان يسقي الماء بالجرة في جامع مصر، وقيل كان يخدم حائكًا يعمل عنده بدمشق وكان أبوه خمارًا بها.

والذين يعرفون طرق الرواية ومصطلحاتها يدركون من هذه العبارة أن ابن خلكان ينتفي من أن تكون عليه تبعة أحد الخبرين أو كليهما، فإن الرواية متى افتتح الخبر "بقيل أو يقال" فقد دل على أن هذا الخبر غير مقطوع به؛ إذ تسمى هذه الصيغة عندهم صيغة التمريض، فهي لا تفيد الصحة ولا الجزم بها، وظاهر أن أبا تمام لا يمكن أن يكون قد نشأ بمصر وبدمشق في وقت معًا.
---------------
1 لما أنشأ المؤلف مقاله عن شوقي "رحمه الله" غضب من غضب من أدباء مصر، وزعموا أنه يقصد الغض من مكانة "مصر الشاعرة"، ورماه من رماه في وطنيته، وحاول بعضهم أن يرد عليه رأيه في الشعر المصري بتعداد شعراء مصر العربية، واستتبع شيء شيئًا فجاء ذكر أبي تمام وما قالوا عن إقامته في مصر؛ فأنشأ المؤلف هذا المقال، وانظر ص146-147 "حياة الرافعي".

وابن خلكان قد وقف على الكتاب الذي عمله الصولي في أخبار أبي تمام ونقل عنه، وهو المرجع في هذا الباب؛ فلا بد أن يكون هذا الكتاب قد خلا من تحقيق هذه الرواية، بل نحن نرجح أنه قد خلا منها بتة، فلم يذكر أن نشأة أبي تمام كانت بمصر؛ لأن صاحب الأغاني أغفلها ولم يشر إليها بحرف، مع أنه ينقل عن الصولي نفسه ويقول في كتابه: "أخبرني الصولي" وكانت أهملها صاحب مروج الذهب، وهو ينقل أيضًا عن الصولي، وهذا يثبت لنا أن الخبر لم يكن معروفًا يومئذ، وإلا هو التاريخ عند أبي الفرج والمسعودي إن لم يكن هو هذا؟

ولكن ذكرت الرواية في كتاب الأنباري "طبقات الأدباء"، واقتصر ناقلها على أن أبا تمام نشأ بمصر، وأنه كان يسقي الماء بها، ولم يذكر رواية عمله بدمشق؛ والأنباري متأخر توفي سنة577، فهو بعد موت أبي تمام بثلاثة قرون ونصف، فلا قيمة لروايته، وشأنه شأن غيره من الناقلين؛ ونحن نرى أن هذه الرواية قد صنعت في مصر نفسها للغض من أبي تمام والزراية عليه، وبقيت مروية فيها ثم حملت كما تحمل كل رواية لذاتها لا لتحقيقها، سواء أكانت موجهة على الحق أم معدولًا بها عنه؛ ولا أوضع في المهنة من سقاية الماء في الجامع بالجرة، ولعمري ما ذكرت "الجرة" هنا عبثًا؛ والغلو في التحقير هو بعينه الدليل على الكذب، فهذه الكلمة كأثر المجرم في جريمته..

وبعد، فإنا نقرر أن هذا الشاعر العظيم لم ينشأ بمصر، وأنه ولد وتأدب في الشام ثم قدم إلى مصر شاعرًا ناشئًا يتكسب بأدبه كما قدم عليها غيره من الأندلس والمغرب والشام، والعراق، وأنه لم يأتِ إلى مصر إلا في ولاية عبد الله بن طاهر الأديب الشاعر القائد العظيم، وقد جعلت له ولاية مصر والشام والجزيرة في سنة 210 أو 211 على خلاف بين المؤرخين، وكانت سن أبي تمام يومئذ بين 21 و23 سنة؛ وقد كان ابن طاهر مغناطيسًا للشعراء في كل مكان ينزله، حتى قال فيه بعضهم وعزم على الهجرة إلى مصر:
يقول رجال إن مصر بعيدةوما بعدت مصر وفيها ابن طاهر
وأبعد من بمصر رجال نراهم بحضرتنا معروفهم غير ظاهر
عن الخير موتى ما تبالي أزرتهم على طمع أم زرت أهل المقابر

 وقد قصده أبو تمام إلى مصر، كما قصده بعد ذلك إلى خراسان في سنة220، وهي السنة التي وضع فيها أبو تمام أو في التي تليها كتاب "الحماسة" كما حققناه ولا محل لذكره هنا.

ونحن نسوق أدلتنا على صحة ما ذهبنا إليه في نفي أن يكون أبو تمام قد نشأ بمصر أو جاءنا طفلًا، أو تكون منها طبيعته في الشعر، أو يكون لها أثر في عبقريته:

1- المجمع عليه بلا خلاف أن الشاعر ولد في الشام، وما دام كذا لقد قالت الطبيعة كلمتها في أصل نبوغه وعبقريته، فإن الأديب يولد ولا يصنع كما يقول الإنجليزي؛ وكل العلماء يعرفونه بالطائي! ولا يطعن في نسبه إلا من لا يحقق وهو نفسه يباهي بطائيته، وذلك كالشرح على كلمة الطبيعة في أسباب نبوغه الوراثية؛ وقد تنقل الرجل بين مصر والشام والعراق وخراسان وأرمينيا وغيرها، فما بلد أولى من بلد بأن يكون مثار عبقريته.

2- إن الشاعر إنما يتكسب من شعره يمدح من يهتز له أو يعطي عليه، ولم يمدح أبو تمام أحدًا من أهل مصر؛ فإن كان مدح فيها عبد الله بن طاهر فإنما إليه قصد وله جاء؛ وابن طاهر ليس مصريًّا، وقد جاء إلى مصر ورجع منها قبل أن يحول عليه الحول، فلو أن نشأة هذا الشاعر كانت بمصر وتأدبه كان فيها لأصبنا له مدحًا كثيرًا في أعيانها وعلمائها؛ إذ هو متى قال الشعر لا يتكسب إلا منه؛ وفي ديوان الشاعر هجاء لابن الجلودي نظمه في مصر، ولكن ابن الجلودي ليس مصريًّا بل هو قائد من قواد المأمون، ولاه محاربة الزط سنة 205، ثم أقدم بعد ذلك مصر، ثم ولي عليها في سنة 214؛ فكل المصرية في شعر أبي تمام هي في هجائه للشاعر المصري يوسف السراج، ولعلها في بعض مقاطيع أخرى من الغزل أو الوصف.

3- ولد أبو تمام في سنة 188 أو190، ومن الثابت أنه كان بمصر في سنة 214، حين نظم قصيدته الدالية والنونية في رثاء عمير بن الوليد -وعمير هذا ليس مصريًّا، بل هو من خراسان، وكان بمصر عاملًا لأبي إسحاق المعتصم بن الرشيد فلو كان أبو تمام قد جاء إلى مصر طفلًا كما يقال لكانت مدة قوله الشعر فيها لا تقل عن عشر سنوات، مع أن كل ما نظمه وهو فيها لا يبلغ عشر قصائد؛ وهذا ديوانه بين أيدينا وإليه وحده المرجع في الدلالة على صاحبه.

4- روى المرزباني في "الموشح" عن العباس بن خالد البرمكي قال: أول ما نبغ "أي قال الشعر" أبو تمام الطائي أتاني بدمشق يمدح محمد بن الجهم فكلمته  فيه فأذن له؛ فدخل عليه وأنشده، ثم خرج فأمر له بدراهم يسيرة، ثم قال: إن عاش هذا ليخرجن شاعرًا.
فهذا نص على أن الشاعر لم يكن يومئذ إلا في ابتداء الشعر، ولم يكن قد خرج شاعرًا بعد وكان شعره من الطبقة التي يثاب عليها "بدراهم يسيرة". وأبو تمام بعد ذلك هو نفسه الذي نثر عليه عبد الله بن طاهر ألف دينار فترفع أن يمسها وترك الخدم ينتهبونها، وكان ذلك سببًا في تغير ابن طاهر عليه.

5- نقل ابن خلكان في ترجمة ديك الجن الشاعر الحمصي المشهور، عن عبد الله بن محمد بن عبد الملك الزبيدي قال: كنت جالسًا عند ديك الجن، "يعني بحمص" فدخل عليه حدث فأنشده شعرًا عمله، فأخرج ديك الجن من تحت مصلاه درجًا كبيرًا فيه كثير من شعره، فسلمه إليه وقال: يا فتى تكسب بهذا واستعن به على قولك. فلما خرج سألته عنه فقال: هذا فتى من أهل جاسم، يذكر أنه من طيء، يكنى أبا تمام، واسمه حبيب بن أوس، وفيه أدب وذكاء وله قريحة وطبع. فهذا نص آخر على أن أبا تمام كان يومئذ حدثًا -أي غلامًا- وكان لا يزال يطلب الأدب، وقد أعانه أستاذه بنسخ من قصائده يتخرج بها ويحذو عليها؛ فهو قد نشأ في الشام وتأدب فيها.

6- نظم أبو تمام قصيدته اللامية:
أصبُّ بحميا كأسها مقتل العذل
يصف تقتير الرزق عليه بمصر وخيبة أمله الذي أمله من المال، وفي هذه القصيدة يحن إلى الشام ويستقي لها ويذكر أرض البقاعين وقرى الجولان التي نشأ فيها: ولا يحن الشاعر لأرض إلا إذا كان فيها حبه أو شبابه وأدبه، أما الطفولة فمنسية بآثارها؛ إذ لا آثار لها في النفس متى شب المرء إلا بعيدًا بعيدًا، وإنما الحنين لما تتعلق به الغريزة المميزة.

7- في هذه القصيدة يقول أبو تمام يخاطب أحبابه:
عدتني عنكم مكرها غربة النوىلها وطر في أن تمر ولا تحلى

والنوى في لغة الشاعر هي رحيله للتكسب بشعره؛ ولما رجع عوف بن محلم الشيباني إلى وطنه بعد وفادته على عبد الله بن طاهر في خراسان؛ سئل عن حال فقال: رجعت من عند عبد الله بالغنى "والراحة من النوى"؛ ويؤيده قول أبي تمام في قصيدته تلك:
نأيت فلا مالًا حويت ولم أقمفأمتع، إذ فجعت بالمال والأهل  يعني أنه اغترب مكرهًا يطلب الكسب لا غير، ولا كسب للشاعر إلا من شعره، فهو بنص كلامه عن نفسه قدم إلى مصر شاعرًا يتكسب ويتعرض للغني كما يصنع غيره.

8- في هذه القصيدة اللامية يقدم لنا أبو تمام -رحمه الله- دليلًا يأكل الأدلة، كأنما ألهم من وحي الغيب أننا سنحتاج إلى هذا الدليل يومًا لندفع به عنه؛ فهو يحن إلى حيبب له في الشام، ويقول: إن غربة النوى التي وصفها:
أنت بعد هجر من حبيب فحركتصبابة ما أبقى الصدود من الوصل
أخمسة أحوال مضت لمغيبه؟وشهران بل يومان ثكل من الثكلِ

يعني أنه قال هذا الشعر وقد مضى على إقامته في مصر خمس سنوات، وكان قد جاء من الشام عاشقًا ذلك العشق الذي فيه "الصدود والوصل"، والطفل لا يحب مثل هذا الحب ولا يحن ذلك الحنين؛ فإذا كان الشاعر قدم إلى مصر في سنة210، كما رجحناه، وسنه بين21 و23 سنة فيكون قد نظم هذه القصيدة في سنة 215، وعمره يومئذ بين 26 و28 سنة؛ فلو أن أبا تمام جاء من الشام طفلًا صغيرًا فكيف للطفل أن يقول مثل هذا الشعر بعد خمس سنوات؟ وما هجر الحبيب "وصبابة ما أبقى الصدود من الوصل"؟

9- مدح شاعرنا محمد بن حسان الضبي بقصيدة نونية يذكر فيها تنقله في البلاد فقال فيها:
بالشام أهلي، وبغداد الهوى، وأنابالرقمتين، وبالفسطاط إخواني
وما أظن النوى ترضى بما صنعتحتى تشافه بي أقصى خراسان!

فأنت ترى أنه جعل أهله بالشام، وجعل أصدقاءه بمصر؛ فلو أنه كان قد نشأ بها لجعل بها أهله؛ إذ لا ينشأ إلا مع أبيه وأمه، والبيت الثاني دليل منه هو على أنه لم ينزل بمصر مقيم ولا متوطنًا، بل متنقلًا كما نزل بغيرها.

10- تقول كتب الأدب في مدارس الحكومة: إن أبا تمام نقل إلى مصر صغيرًا فنشأ بها وقد بينا فساد ذلك، ثم خرج إلى مقر الخلافة فمدح المعتصم؛ وهذا غير صحيح؛ فإن أبا تمام خرج من مصر قبل أن يدخلها المأمون في سنة 216، حين جاءها وقتل بها عبدوس الفهري؛ فلو كان الشاعر يومئذ لمدح المأمون، وذكر هذه الواقعة، والمعتصم ولي الخلافة سنة 218، وديوان أبي تمام يثبت أنه في سنة 217، كان بالعراق، وقد مدح المأمون بقصيدته الميمية، وذكر في مدحه وقعة الروم، وهذه كانت في تلك السنة.

 يخلص من كل ما تقدم أن أبا تمام ولد في الشام وتأدب فيها، وقدم إلى مصر كبيرًا يتكسب بالشعر، فأقام بها بين خمس سنين وست، ولم يجد له عيشًا بها بعد قتل عمير بن الوليد الذي قتل في سنة 214؛ فإنه كان يعيش في كنفه، وقد صرح في قصيدته النونية التي رثاه بها أنه يأمل من بعده في ابنه محمد.
فقدوم الشاعر إلى مصر كان في سنة210 أو حواليها، وخروجه منها كان في سنة215 أو حواليها، والله أعلم.

القديم والجديد1
أقول للأستاذ الفاضل الدكتور طه حسين "في رفق ولين" وفي عجلة أيضًا: إني في هذه الأيام ضنين بما أملك من وفتي أشد الضن، أحسب السماء تتفجر من يومي في ساعة كالفجر، فلا يصرفني عن تلك الساعة شيء ولا يصرفها عني شيء؛ إذ بين يدي كتاب في الرسائل أعمل فيه وأستعين الله على الفراغ منه في وقت معين، وقد أظل أو كاد؛ فلا يرين الأستاذ أني أستطير هذه المرة كالطيرة الأولى، فإن جناحي في فضاء آخر، وإن هذا الكتاب الذي أعالجه لا يجشمني عرفًا من القرية كما قالوا قديمًا، بل لعله في ألمه أشبه "بعملية" تشريح في القلب، وستذهب الدقائق التي أكتب فيها هذه الكلمة مأسوفًا عليها، لأنها ذاهبة بصفحتين من كتابي.

وأما بعد، فلا أرى من الإنصاف أن يعمد الدكتور إلى جمل يقتضبهن من مقالي في مجلة الهلال ثم يهدفها للرد، وكان عسى أن يدفع عنها شيء مما قبلها أو ما بعدها أو يشد منها بعض جهاتها أو يأتي بها في سياق يبين عن معناها.

وزعم الأستاذ أنه لا يفهم من كلامي هذه الجملة "وأنت تعلم أن الذوق الأدبي في شيء إنما هو فهمه، وأن الحكم على شيء إنما هو أثر الذوق فيه، وأن النقد إنما هو الذوق والفهم جميعًا.. ثم دار بهذه الكلمات دورة العاصفة وجعلها مسألة كمسألة الدور والتسلسل المشهورة، بل جعلها من قبيل "قصة وقضية".. فتراه يقول: ذوق هو الفهم، وفهم هو الذوق، وفهم ليس بالذوق، وذوق ليس بالفهم، وهلم صاعدًا ونازلًا؛ وضرب لنا مثلًا بالموسيقى فقال: "ما نظن أن الذين يطوقون الموسيقى ويطربون لها يفهمونها جميعًا". وأنا أفسر كلامي بهذا المثل نفسه، أقتصر عليه ولا أعدوه.

نأتي الآن بأستاذ قد برع في الموسيقى وخالطت أعصابه ولحمه ودمه، وندفع إليه قطعة ملحنة ونقول له: اسمع وافهم واحكم وانتقد؛ يسمعها مرة بعقله أو لعقله يتبين ما يكون فيها صوابًا وما يكون خطأ، ثم ما يعلو عن الصواب من الإجادة والإتقان، وما ينحط عن الخطأ من الإساءة والتخليط؛ فهذا هو الفهم.
---------------
1 نشرها حين المعركة بينه وبين الدكتور طه حسين حول كتابيه: "رسائل الأحزان" و"السحاب الأحمر"؛ وللدكتور فيهما وفي أسلوبهما رأي.
وانظر كتابي: "المعركة تحت راية القرآن". و"حياة الرافعي".

ويسمعها مرة ثانية بحسه أو لحسه، فيرى أثر ما فهم، ويديرها في ذوقه ليعرف كيف موقعها من الغرض الذي وضعت له، فإنها لم توضع لتكون أصواتًا، بل لتخلق من الأصوات شيئًا؛ فهذا هو الذوق، وهو كما تراه بعد الفهم وناشئ عنه.

ومثل الأستاذ طه حسين لا يخفى عليه أن من يقول: إن الذوق في شيء إنما هو فهمه، أو إنما هو عن فهمه، أو إنما ينشأ عن فهمه، فالعبارة في باب المجاز واحدة لا تختلف.

ثم إن أستاذ الموسيقى وقد سمع القطعة مرتين، أو مرة كمرتين إن بلغ أن يكون له في كل أذن واحدة أذنان، يستفتي ذوقه الفني ويحكم للقطعة أم عليها؛ فهذا هو أثر الذوق.

الآن قد حكم الأستاذ وانتقد وجزم برأيه، فندب له فلان يقول: أخطأت وأسأت وجهلت وغفلت، أو تعصبت وحططت في هوى صاحب اللحن؛ فمن أين جاء هذا الخلاف وكيف وقع هذا القول؟ بل كيف ساغ للثاني أن يجهل الأول ويرى غير رأيه ويحكم غير حكمه، إلا إذا كان قد فهم غير فهمه فأنشأ له الفهم ذوقًا وأحدث له الذوق حكمًا وجاءت من هذه المقدمات تلك النتيجة التي نسميها النقد، وما هي في الحقيقة إلا الذوق والفهم جميعًا، فالذين يذوقون الموسيقى ويطربون لها ولا يفهمونها فقد فهموها على مقدار ما استقر في نفوسهم من أساليب التطريب وما فيهم من المطاوعة لهذه العاطفة؛ أو لا تراهم يقولون في أمثال هؤلاء: إن لهم آذانًا موسيقية؟ فهذه الأذن هي الفهم بعينه، لأنها حاسة اجتمعت من مران طويل، وقد تقوم في بعض الناس على جهله بالموسيقى مقام علم برأسه.

ويقول الأستاذ طه: إنه قد يقرأ كلامي ويفهمه ولا يذوقه، ولكن عدم الذوق هنا هو الذوق؛ وليت شعري ما معنى قول المتنبي:
ومن يك ذا فم مر...

ولو كان الأستاذ وأمثاله هم في هذا القياس المتر والكيلومتر، لوجب ألا أجد من يذوق كلامي ويعجب به ويغالي فيه ويكون ذنبًا من ذنوبي عند الله بإسرافه في المغالاة، وأنا واجد لكل واحد مثل الأستاذ طه عشرة ومائة من غيره، ولو خرج هو إلى العالم لرأى وسمع، وفيهم من هم أعلى منه كعبًا وأمد عنقًا وأضخم هامة وأبدع بديعًا وأبلغ وأزكى وأعلم إلى عدد من هذه الواوات.

 وعجبت للدكتور يريد أن لا يفهم من عبارتي كما يقول إلا أن "الذوق هو نفس الفهم، فاللفظان يدلان على معنى واحد، وإذن وإذن وإذن..".
فهل يرى إذا قلت له: رأيت القمر وفلانة ليلة كذا فكانت إنما هي القمر -أني أقصد بهما معنى واحدًا فيقول لها: "وإذن" فليسا شيئين مختلفين وإنما هو شيء واحد، وإذن فكيف صار لها وجه في السماء ووجه في الأرض وبقيت مع ذلك امرأة من الإنس؛ وإذن فهذا كلام لا يفهم...

قال بعضهم إن "لو" تفتح عمل الشيطان، يريد أنها أداة التمني، والمذهب الجديد سيضم "إذن" إلى "لو" ثم ما هي الكلمة الثالثة يا ترى؟
أنا -مع إعجابي بالدكتور الفاضل- أرى أنه مستهتر بأشياء، وأن من خلقه أن ما لا يرضى عنه وما لا يفهمه "ليسا شيئين مختلفين". فإذا لم يكن من الفهم بد قال: إنه لا يقتنع، فإذا ضايقته وضيقت عليه لم يبق إلا ما يقول النحاة في "أي" التي حيرهم إعرابها وبناؤها: أي كذا خلقت...

وأنا وأمثالي إنما نحرص أشد الحرص على هذه اللغة؛ لأنها أساس الأمة الإسلامية فلا نرضى غلا أن يكون هذا الأساس ثابتًا متينًا لا يزعزعه شيء ولا يثلمه شيء ولا يضعفه شيء؛ والدكتور وأمثاله لا يبالون أن تكون هذه الأمة كبيوت أمريكا المتحركة...

لست أنكر التجديد، بل لعل الدكتور يذكر مناقشتي إياه في "الجريدة" وإصراره يومئذ أن ليس لأحد أن يدخل في اللغة كلمة، وأن قول الناس تنزه ومتنزه ونزهة الخ كلها منا لكلام العامي، وتعلقه بنص ابن سيده في ذلك، واستخراجي له نص ابن قتيبة وكلامًا كثيرًا من استعمال العلماء، ثم قوله أحسنت، ولكن لو جئتني باللفظة في كلام المبرد والجاحظ وفلان وفلان ما اقتنعت.

إنما أنكر شيئًا واحدًا، وهو أن يقال مذهب قديم ومذهب جديد؛ فقد وسع الله على الناس فيما علموا وفيما جهلوا، ولكن أصحابنا يريدون ألا نكتب إلا نمطًا بعينه، ولا نذهب إلا مذهبًا بعينه؛ لأن كل ذلك هو الجديد؛ فأيهما خير لنا ولهم وللذين سيخرجون تاريخهم من قبورنا: أن نعتد اللغة والأدب كل ما اجتمع من قديم وجديد ونحكم هذه اللغة ونحفظها وندفع عنها ونجعل تجديدها كتجدد الحسناء في أثوابها وفي ألوانها دون تشويه ولا مسخ ولا مس الجسم الجميل، أن تقول: هذه الشفة وهذا الأنف وهذا الموضع الممتلئ الخدل وهذا الموضع الهضيم الناحل وتعال يا دكتور هات المبضع والمشرط والمقص والمنشار والإبرة والخيط وإذن...؟

لقد أذكر أني رأيت في بعض مقالات الأستاذ طه حسين أو في بعض ما يقرظ به الكتب أنه قال: إن القديم قد أثبت دائمًا أنه أقوى وأمتن وأصح؛ فهل رجل عن هذا الرأي أم ظهر في الجديد ما هو أقوى وأمتن وأصح؟ ثم يا أيها الملأ أفتوني ما هو هذا الجديد؟ أهو ذاك الخيال الشارد المجنون، أم تلك الشهوات المتوثبة المتلهفة، أم ذلك الأسلوب الفج المتسوخم، أم العامية السقيمة الملحونة؛ أم هو في الحقيقة بين رغبة في النبوع قبل أن تتم الأداة وتستحكم الطريقة، كما هو شأن فريق من الكتاب، فيختصرون الطريق بكلمة واحدة هي المذهب الجديد - وبين غربة في التعصب للآداب الأجنبية كما هو شأن فريق آخر- وبين رغبة في الحط من قيمة بعض الناس ورميهم بالجهل والسخف وأنه لا قيمة لما يجيئون به، كل ذلك في تعبير علمي يصح أن يكون نظرية علمية... وقبلهم قالها العرب في القرآن الكريم: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} فقد شاءوا فلم يقولوا؛ ولو أن المذهب الجديد فسر القرآن يومًا.. لقال في معنى أساطير الأولين إنهم أرادوا بهذا المذهب القديم...

ويقول الدكتور طه: إن هناك قومًا ينصرون المذهب الجديد وليس لهم من اللغات الأجنبية وآدابها حظ، وحظهم من اللغة العربية وآدابها موفور؛ ثم طلب رأيي في هؤلاء وما أصل مذهبهم الجديد؛ فأقول: إني أعرف بعضهم، وأعرف أن أدمغتهم لا يشبهها شيء إلا جلود بعض الكتب التي ليس فيها إلا متن وشرح وحاشية: جلد ملفوف على ورق، وورق ينطوي على قواعد محفوظة، وهم أفقر الناس إلى الرأي؛ وهذه علة حبهم للأساليب الجديدة القائمة على الترجمة ونقل الآراء من الغرب إلى الشرق، وبالمعنى الصريح المكشوف: من الأدمغة المملوءة إلى الأدمغة الفارغة، وفيهم بعض أذكياء، ولكن ذكاءهم في حواسهم، فإن لم يكن هذا فليقولوا هم لماذا؟

ولو أنك سألت العنكبوت: ما هي الظبية الحوارء العيناء التي تطمعين فيها وتنصبين لها كل هذه الأشراك والحبائل؟ لقالت لك: مهلًا حتى تقع فتراها! فإذا وقعت رأيتها ثمة ورأيتها ذبابة..

ولكن ماذا يقول الدكتور في الأستاذ الإمام الكبير الشيخ محمد عبده؟ أكان يدعو إلى مذهب جديد في اللغة والأدب ويفتتن بالروايات الغرامية وبأسلوب "إميل زولا" في روايته المعروفة وبمثل رواية "الأجرسون".

إن كان الناس عند الدكتور من بعض الحجج فإن الشيخ وحده بأمة كاملة ممن يعنيهم.
وأختتم هذه الكلمة بالشكر للأستاذ طه حسين والثناء عليه، ثم إني مسترسل في عملي، وهذا عذري إليه.
مصطفى صادق الرافعي
أحدث أقدم

نموذج الاتصال