الإنسان ـ أي إنسان، فرداً أم جماعة ـ لا يمكنه أن يعيش خارج بيئته أياً كان الزمان أو المكان؛ ولذلك فهو مرتبط بالوسط/ العالم وتغيراته المتسارعة على كل صعيد، ومستوى... فأي مثقف عاش في عزلة، انتهت به هذه العزلة إلى العجز من تطوير حياته وأدواته وحاجاته، ومن ثم وقع في الخلط والخلل، والزيغ والجهل والنقصان، وأصبح عاجزاً عن تطوير مجتمعه...
إذاً، الحياة بكل متطلباتها تفرض على الإنسان والشعوب عملية التواصل فيما بينها؛ وهو تواصل يجري بأشكال شتى على مختلف الصعد السياسية والثقافية والعلمية والاجتماعية والاقتصادية والإعلامية والتقنية.... وعلى مختلف المستويات الفردية والجماعية، دولاً ومؤسسات ومنظمات وهيئات... ويمكن للمرء أن يتوقف عند الصعيد الثقافي بوصف الثقافة ذات اتجاهات شتى؛ مادية ومعنوية.
ومن ثم فالثقافة تقع في رأس الحاجات العليا للبشرية؛ وتغدو أداة ووظيفة وهدفاً في آن معاً. لذلك تعددت مفاهيمها وتعريفاتها؛ وأشهر تعريفاتها أنها مجموع المعارف والخبرات والعادات والتقاليد والطقوس التي تتحول إلى أنساق فكرية وسلوكية... أو هي مجموع النشاطات الاجتماعية والإنسانية مادياً ومعنوياً.
فالثقافة ـ في هذا المقام ـ تجسّد محطة الوعي الكبرى لدى الإنسان بكل ما يحتاج إليه، وتؤسس لاستثمار العقل البشري في اتجاهات ثقافية متنوعة ومتعددة تبعاً لأنماطها الروحية والمادية، والشعبية والرسمية، والتربوية والعلمية والأدبية والفنية، الإيجابية والسلبية. وهنا أيضاً ثقافة القيم الخلقية والجمالية، وثقافة الإبداع والاختراع و... وتقانة المقاومة والحرية... وثقافة المساومة والهزيمة، والاستسلام، وثقافة الغزو، والثقافة المضادة...
أما المثاقفة فهي اكتساب فرد ما أو جماعة ما ثقافة الآخر بأسلوب إرادي ولا إرادي؛ أي وفق منهج علمي مدروس أو أسلوب عشوائي عفوي. فالمثاقفة حاجةً لا غنى عنها للأفراد والجماعات و... وهي تتجه اتجاهات نظرية أو سلوكية حياتية، وترتبط بالتصرفات تارة فتغدو تقليداً عند هذا الفرد أو ذاك... كما ترتبط بالفلسفات والرؤى تارة أخرى؛ وكل يريد أن يفرض رؤيته أو ثقافته على الآخر، وكذا هي سياسة الشعوب والدول.. وفي مثل هذه الحال تصبح المثاقفة غير متوازنة، وغير طبيعية، وغير موضوعية... وهذا ما يمكن أن يتجلى في ثقافة العولمة (Globalization) التي راحت تفرض أنماطها على ثقافة العالم وعقله في الاقتصاد والتجارة، والتقنيات والأسفار، والإعلام والفضائيات والاتصال والمواصلات، والحاسوب والشابكة، والتزيين والأثاث، والأطعمة والأزياء، والعلوم والمعارف، والفنون والآداب والنقد... وقد أصاب ثقافتنا العربية، وعاداتنا الاجتماعية تغييرات غير قليلة لصالح ثقافة العولمة، وفق ما سنشير إليه في نهاية البحث.
ومن ثم فالثقافة الحقيقية تشترط المثاقفة بين الثقافات والشعوب على أساس التوازن والعدل الإنساني؛ وإن كان طرف ما أكثر تقدماً وارتقاءً من طرف آخر، علماً أنه لا يمكن لأي مثاقفة مهما كانت أشكالها إلا أن تجري بالحوار والتواصل الصحيح دون فرض أو قهر بالقوة. ثم إن قضايا الحوار الثقافي تعد ـ اليوم ـ واحدة من أبرز قضايا الفكر العربي المعاصر... ولا مراء لدينا في أن كل ثقافة تتصف بخصائص ذاتية تميزها من بقية الثقافات، طبيعة ووظيفة،... وهذا يضع نصب أعيننا أن الثقافة العربية التي تكونت منذ آلاف السنين قد اندمجت بالإسلام حتى صارت العروبة جوهراً؛ والإسلام روحاً، ومن ثَمَّ اصطبغت بالعمق والاتساع لأجناس شتى.
وإذا كنا نريد أن نتعلم أنماط الثقافة ونحرص على تبني أشكالها الإيجابية، فإنه ينبغي أن نتحرر من الأشكال السلبية فيها نفسياً وفكرياً واجتماعياً فنقلع عن تبني مفاهيم الخوف والاستلاب والتبعية، والهزيمة، والإرهاب فضلاً عن مفاهيم الثقافة الاستهلاكية،... وأن نتبنى أشكالاً إيجابية، بناء على مختلف المستويات وتعدد الانتماءات؛ أي علينا أن نتمسك بمعادلة ثبات الذات هوية وثقافة، ثم نثري الاتجاهات الثقافية لدينا بكل ما هو مفيد ونافع وجديد.
إذاً، هناك اتجاهات أخرى للثقافة والمثاقفة فنقول ثقافة وطنية وقومية وإنسانية، وثقافة علمية؛ وأدبية ونقدية، وثقافة إعلامية واقتصادية وسياسية واجتماعية و... وفضلاً عن ذلك فهناك خلط بين الناس في مفهوم الثقافة والمدنية؛ كما خلطوا بين مفهومي الثقافة والحضارة؛ فإذا كانت الثقافة مجموع مدخلات الذهن البشري من الخبرات والمعارف والعادات والفنون والآداب و... قديمها وحديثها قد تحولت إلى أنساق معرفية وعلمية وفنية و... وسلوكات ... فإن الحضارة أوسع مفهوماً وهي حضارة إنسانية تتبنى المفاهيم الخلقية والمعنوية والمادية القديمة والحديثة، لخدمة الإنسان كي يتقدم ويرتقي، ما يعني أن الحضارة تتجاوز الزمان والمكان والجنس واللون، وتتفاعل في غيرها من الحضارات التي صنعها شعب ما وأمّة ما في مكان ما وزمان ما... وما تزال تستند إلى هذا المبدأ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها... وبهذا فإن الثقافة تمتد إلى المضامين الفكرية في مجمل المعارف وإلى بعض الظواهر المادية والتقنية والفنية للحياة... على حين تمتد الحضارة إلى كل جوانب الثقافة ومفاهيمها، وإلى الحياة بكل أبعادها ووجوهها.
وإذا كانت الثقافة والحضارة تحتاجان إلى عقل واعٍ ومنهج وعلم ومعارف وتقنيات وفنون و... فإن المدنية تحتاج إلى مثل هذا، أي إنها تحتاج إلى كل ما هو مادي؛ وأما الخلق النبيل والروح السامية فإن كليهما تفترضه الثقافة، الوطنية والقومية، والإنسانية، كما تفترضه الحضارة، علماً أن أي تطور مادي مدني قد تتحول أشكاله أو تتغير أو تفنى.... ما يعني أن الشكل الحضاري ثابت، وأن أشكال المدنية تختلف من شعب إلى شعب ومن أمة إلى أمة، وإن انتقلت فيما بين الشعوب والدول والأمم كالأسلحة والإعلام، والعلوم، والفنون، والموسيقى والآداب... إذ يختلف التطبيق فيما بينها تبعاً للمبادئ الفاضلة والتصورات العقلية...
وحين سيطرت المدنية المادية على الحضارة الغربية منذ القديم كان العرب والمسلمون يسعون إلى حالة من التوازن بين المادة والروح ولا سيما بعد مجيء الإسلام الذي غدا روح العروبة. فالبنية الثقافة الجديدة هي التي أخذت تحدد خصائص المجتمع العربي ـ الإسلامي، علماً أن علماء الأنثروبولوجيا، وأقطاب علم الاجتماع المعرفي يذهبون إلى أن العناصر الروحية تتشيا بأنماط شتى مثل الأفكار والأخلاق والعادات والتقاليد، والقوانين والآداب واللغة والفنون... وهي التي تميز مجتمعاً من مجتمع آخر. ومن ثم فإن تحليل البنية الثقافة العربية بكل مستوياتها واتجاهاتها تعزز فكرة أصالة الحوار عند العرب والمسلمين، بوصفها فكرة ساعدت على التطور الحضاري للأمة.
ومن هنا تصبح معرفة دلالة الحوار ـ اصطلاحاً ـ ضرورة لفهم ثقافة الحوار التي غدت كينونة وجودية عند العرب والمسلمين. فالحوار (Dialogue) هو مراجعة الكلام في شأن ما، أو رأي ما؛ لتعزيزه، أو تصويبه، أو تطويره، أو التخلي عنه... ما يفيد بأنه نظام لغوي للتخاطب بين المتحاورين يتضمن رسالة ذات مضمون ما وطنياً أو قومياً أو إنسانياً، ذاتياً أو اجتماعياً، سياسياً أو ثقافياً أو إعلامياً أو أدبياً و... ومن ثم فالرسالة بمكوناتها الثقافية توصل إلى حالة من التماثل أو التجانس، أو التفاهم، أو... بوصفها رسالة تقريب حضارية تتنافى مع الصنعة والتزيّد، وتبتعد عن التلفيق والتحريف و... وهذا يبرز أن مفهوم الحوار يختلف عن مفهوم الجدل؛ وإن كانا يلتقيان في جوانب المراجعة الكلامية، إلا أن النقاش في الجدل غير مثمر؛ وقد ينتهي إلى نتيجة عقيمة، علماً أن الجدل قد يعني الحوار نفسه بكل سماته وخصائصه، لقوله تعالى: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها؛ وتشتكي إلى الله، والله يسمع تحاوركما(سورة المجادلة).
التسميات
عولمة