في حوار أجرته اعتماد عبد العزيز، ونشرته مجلة 'إبداع'، سنة 1984، سُئل الشاعر المصري الكبير الراحل أمل دنقل (1940ـ1983) عن رأيه الصريح في قصيدة النثر، وفي الموقفَيْن منها: ذاك الذي يقول إنها أرقى ما يمكن أن يُقدّم اليوم في الإبداع الشعري، وذاك الذي يصرّ على أنها قصيدة العجزة والفاشلين. قال دنقل: 'إذا كان الإيقاع عنصراً هاماً جداً من عناصر التوصيل بين الشاعر والقارىء، فلماذا نتخلص بأيدينا من هذا العنصر، خاصة إذا عرفنا أنّ الإيقاع في الشعر بالنسبة للأذن العربية والمستمع العربي هامّ جداً؟
وأنا أرى أنّ الفيصل في أي لون أدبي هو الوصول للناس. فهل استطاعت قصيدة النثر حتى الآن أن يكون لها جمهور حتى بين المثقفين؟ هل استطاعت أن يكون لها خصائص فنية مستقلة عن القصيدة الحديثة؟ لا أعتقد أنها فعلت ذلك'.
الأرجح أنّ الراحل، الذي مرّت ذكرى ولادته السبعون قبل أيام، كان ـ مثل العديد من الشعراء والنقّاد، آنذاك ـ يراهن ضمنياً على أنّ شكل قصيدة النثر لن يعيش طويلاً، أو أنّ هذه القصيدة سوف تبقى حكراً على عدد محدود من الشعراء الذين شرعوا في كتابتها منذ أواخر الخمسينيات (أمثال محمد الماغوط وأدونيس وتوفيق صايغ بصفة خاصة)؛ ولن يكون لها حظّ عند الأجيال الشابة من الشعراء. ولقد تبيّن، بالطبع، أنّ موجة قصيدة النثر لم تكن عابرة بل عارمة، فلم ينقضِ وقت طويل حتى تسيّدت أشكال كتابة الشعر في مستوى الكمّ، وبات من النادر اليوم أن نعثر على صوت شابّ جيّد يكتب قصيدة التفعيلة، فما بالك بعمود الخليل!
ولقد سبق لي أن ساجلت بأنّ تطوّر مشروع دنقل الشعري كان كفيلاً بتحقيق مقدار متقدّم من 'ضبط التوازن' المطلوب بين قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، إذا جاز الحديث عن هذا الطراز من التوافق في التجارب الإبداعية والجمالية، وفي حياة الأشكال الشعرية بصفة خاصة. وكنت، وأظلّ، أرى أنّ شعر دنقل في خصائصه الراهنة، بعد 27 سنة على رحيله، يشكّل حليفاً طبيعياً لمعظم أصوات قصيدة النثر العربية المتميّزة الراهنة؛ فكيف لو أنّ الشاعر بقي على قيد الحياة، وارتقت شعريته إلى مصافّ أعلى، كما في وسع المرء أن يرجّح بقوّة، واتسع نطاق موضوعاته، واغتنت تشكيلاته الإيقاعية؟ جدلية كهذه ما كانت ستتحقّق على صعيد القارىء وحده، بل لدى الشاعر أيضاً، في ظنّي؛ وكنّا سنشهد المزيد من أوجه تكريم دنقل عند بعض أبرز أصوات قصيدة النثر المصرية المعاصرة، أمثال علاء خالد وعماد أبو صالح وياسر الزيات وزهرة يسري وجرجس شكري ومحمد خير (في الفصحى كما في المحكية المصرية)، فضلاً عن الراحل أسامة الدناصوري.
وكما أنّ قصائد محمود درويش وسعدي يوسف وأدونيس (حين يكتب التفعيلة) تظلّ حليفة قصيدة النثر العربية، وليست البتة خصمها اللدود، القريب أو البعيد؛ فإنّ قصائد دنقل كانت ستأخذ المنحى ذاته، بل كانت ستتجلى بزخم أوضح داخل المشهد المصري تحديداً. وأغلب الظنّ أنّ آراء الراحل حول موسيقى الشعر والوزن والإيقاع، والتي قد تبدو اليوم محافظة أو متشددة، كانت ستشهد تحوّلات ملموسة بفعل التطوّرات الكبرى التي شهدتها نظرية الشعر في عصرنا. وهذا استنتاج لا ينهض من فراغ، إذْ ثمة في أحاديث دنقل وأفكاره النقدية سلسلة مواقف تقدّمية، وآراء ديمقراطية مرنة، إزاء أشكال كتابة الشعر.
والراحل يقول، في حوار نشرته 'فصول' سنة 1981: 'الشعر الجديد لم يكن ثورة موسيقية، ومن هنا فإنّ مسألة إيقاع، وموسيقى العصر، مسألة أخرى تماماً. وما أراه أنّ الشعر الجديد هو خروج بالبناء الشعري من إطار الموسيقى إلى الإطار التشكيلي أو التصويري. وهذا التطوّر في الشعر كان يجب أن يتمّ منذ سنوات طويلة، وقد جاء نتيجة لأنّ القصيدة بعد أن كانت محفلية، أو مسموعة، أصبحت مقروءة. وقد كان يجب أن يتمّ هذا التطوّر في الشعر في عصر النهضة وظهور الطباعة وانتشار المجلات والصحف. ويترتب على ذلك إلغاء اللوازم الموسيقية المتعلقة بالسمع، أو بالأذن العربية، واعتماد القصيدة على الوسائل البصرية، وهي الأقرب إلى التشكيل'.
هل يتوفر شاعر واحد، يكتب قصيدة نثر ناضجة، يمكن أن يعترض على هذا الكلام، أو يرى أنه لا يمثّله، نظرياً في الأقل؟ ألم تثبت أقدار قصيدة النثر العربية الراهنة أنّ معظم 'التجاوز' في التجريب الشعري يقف عند دائرة اللغة وحدها وعند الشكل، حسب تشخيص دنقل، فكان أن 'تحوّل الشعر الحديث إلى شعر مثقفين، في حين أنّ وظيفته الأساسية هي في ارتباطه بالناس'؟ أليس شيوع 'قصيدة التفاصيل' و'القصيدة اليومية' هو نوع من مصالحة 'نثر الحياة اليومية'، وهو مادّة قصيدة النثر في نهاية المطاف، مع حياة الشارع وشعريات البشر؟
وكيف يصحّ الاعتراض على خلاصة بدهية، مثل هذه التي قال بها دنقل: 'التجاوز للواقع يحتاج إلى تجاوز للطرائق الفنية التي يتمّ بها التعبير عن هذا الواقع، واستحداث طرائق بديلة، واستجلاب لمذاهب فنية. أما اللجوء إلى الإيهام بمحاولة تغيير الواقع، [فإنه] الإيهام بالثورة عن طريق ثورة شكلية فقط'؟
صبحي حديدي
التسميات
أعلام