الغزاة هم الغزاة... والطغاة وأينما كانوا ليسوا بأقل من أوغاد وحماة للوحش، مدمر الوجود ومفترس البشر والحياة.. غابة من الوحوش الشرسة هم الغزاة وآخر الضواري المفترسة المتأبية على الإنصياع لآدمية البشر، هم الغزاة، سقاة الدم، برابرة التاريخ الأعمى، رعاة المجازر والمذابح والوحشة والظلام، الضالعون بلا هوادة وبالجنون في صنع الفناء وإبادة البشر..
إنهم يقتلون أنبياء الحرية في عرض البحر وعند تخوم الفجر، يقتلون بشراستهم الغليظة وبالصلف ذاته من جاءوا وطافوا في البحر ومن ركبوا الأمواج حاملين في أعناقهم أمانة الضمير ونشيده الصافي لأجل نصرة الحق والعدل ومؤازرة من يتلهفون إلى أفق جديد وعالم إنساني نظيـف، لأجل من يتطلعون بلهفة وحرقة إلى أبعد ما في العالم من أبعاد وبلاد وبقايا ضمائر حية من كائنات.
أهل غزة ينتظرون، من وراء السياجات المصنوعة من أشواك الحقد والحديد، أهل غزة ينتظرون من وراء الحصار والبحر، من قلب صحراء الحصار، من خلف خوف الضواري وذعر هي من جراحات أشباح الضحايا وصدورهم العارية، من مشاعل دمهم التي تشع في ليالي وعتمة ووحشة الحصار.
وحدهم أهل غزة ومن معزلهم يتطلعون بحرقة وغصات ملتاعة، إلى من جاءوا إليهم حاملين لهم إفاقة الضمير ووعده الرصين لفك الحصار وإزالة الحواجز والأسوار.
أهل غزة ينتظرون، من وراء السياجات المصنوعة من أشواك الحقد والحديد، أهل غزة ينتظرون من وراء الحصار والبحر، من قلب صحراء الحصار، من خلف خوف الضواري وذعر هي من جراحات أشباح الضحايا وصدورهم العارية، من مشاعل دمهم التي تشع في ليالي وعتمة ووحشة الحصار.
وحدهم أهل غزة ومن معزلهم يتطلعون بحرقة وغصات ملتاعة، إلى من جاءوا إليهم حاملين لهم إفاقة الضمير ووعده الرصين لفك الحصار وإزالة الحواجز والأسوار.
هذه هي غزة تغيب شيئاً فشيئاً عن الوجود وتحيا بالقليل مما لها من حظوظ في صحوة الضمير في كل أرجاء المعمورة.
أطفال بلا وقت بلا زمن، خارج الحياة معجونين بالتراب والجراح والحجارة وبما اكتوت به الذاكرة، متلفعين بدخان الحرب الجائرة وبالسواد ينامون ويحلمون، ويتشوقون بحرقة وبصبر لا يكل لمن سيأتيهم من الأحرار في الغد وبعد بعد.
أطفال بلا وقت بلا زمن، خارج الحياة معجونين بالتراب والجراح والحجارة وبما اكتوت به الذاكرة، متلفعين بدخان الحرب الجائرة وبالسواد ينامون ويحلمون، ويتشوقون بحرقة وبصبر لا يكل لمن سيأتيهم من الأحرار في الغد وبعد بعد.
أمهات صرعى، مقيدات بالبكاء والحزن والصمت الطويل، بالأسى المقيت وبالعويل.. آباء نفدت منهم ذخيرتهم الحية من أبناء وبنات وأهل وأصدقاء وجيران، لمواجهة الشظف والضنك والتصحر والمبيت القسري في العراء.. تُرى ما الذي يفعله الأطفال لإحتساب العمر أمام مشهد الدمار الجهنمي الذي خلفته الحرب وويلات الحصار الظالم القاهر الذي طال، ماذا يصنعون بأيامهم الخالية منهم ومن طفولتهم بعد أن تقطعت بهم السبل، أينتظرون ساعة الساعة أم أنهم سيحلمون بحياة مضت إلى غير رجعة، أم أنهم سيكبرون ويهرمون في كل ثانية ولا أحد منهم يفكر بأبعد من هذه القيامة؟
صهيل الدم في غزة يكبر ويعلو، يصم الآذان، يطاول السماء، ووحدهم الأهل في غزة يُكرهون الموت على الإبتعاد، على التنحي والوقوف إلى جانب عتمة الحصار ريثما يوقدون الشمع بالدمع لوداع من يقفون في صمتهم خاشعين لأرباب الأرض اليباس والعدم..
غزة تحترق وأهلها أصابهم الحصار بالملل، والفلسطيني هناك لم يعد يخاف من العدو ولا يخشى من الوحش ولا من أقرباء وأصدقاء العدو، فجميعهم باتوا شركاء أوغاد في بغضهم للحياة ومن يحبها ويدافع عنها.
وحدها الأيادي البيضاء والحرة حملت غزة فوق حناجرها أثناء الحرب وطافت بها الشوارع والساحات، حول المعابد والقصور، أمام تيجان الملوك وشارات النبلاء وحكمة دهاة السياسة من وزراء ورؤوساء وخطباء البلاغة الجوفاء، في تحد صارخ وجارح للأنظمة المعتدة في غيها وإحتقارها لشعوبها وفي إعتدالها لإنهاء القضية وتأييدها للقاتل في حماية أساطيله ومعداته الحربية من الضحية، وكان على الضحية ألا تؤذي نفسها ويجب أن تستسلم لنهايتها وتعلن موت القضية وعلى دمها المسفوك ولحمها المنهوب والمصلوب وعلى الأطفال والنساء والحوامل والأرامل واليفاعة والكهولة أن يتحملوا جميع أصناف العذابات والإحتراقات والويلات مقابل صمودهم وصبرهم لإستعادة الهوية الوطنية بحرية وكرامة على بقعة صغيرة من الأرض المحتلة.
ورغم ما يعانية العربي من حصار ونفي لوجوده على أرضه وفي وطنه إلا أنه استطاع - وليست هذه هي المرة الأولى- أن يخرج إلى الشوارع بقيوده كاملة ليرفض أثناء الحرب وبصوته المخنوق، ورغم السجون والمعتقلات وقيود القهر والذل المطبقة عليه، وصل الصوت عالياً لمن كانوا بحاجة ماسة لمن يصرخ عنهم فالموت المتواصل لم يكن يسمح لهم للحظة بكاء عادي أو لعناق أو وداع أخير.
صراخك الأخير والآن والقادم هو لك فامتلكه، ضمه إلى قلبك الظمآن، إلى قفر روحك وفقرك، لن يرويك ويحييك غير صوتك، تذكر صراخك ونبضك الملآن بدمك الساخن الحر والسخي، لا تجعله يفتر.. صراخك مرآتك الأولى فتعرف عليك كما لو أنك تصرخ لأجلك وتذكر تذكر من كنت أثناء الحرب وفي نفس الشوارع والساحات التي ما زالت تمشي عليها الآن وحيداً منك وغريباً عليك وعلى ذات الشوارع وفي البيت والمدرسة والجامع والكنيسة والجامعة.. لم يتعبك الصراخ بالأمس ولم يذهب سدى لأن من صرخت لأجلهم في غزة لا زالوا أحياء بعزة وكرامة، بعضهم فقدوا الحياة وبعضهم على قيد الحياة جرحى ومرضى ومضروبين بألف ألف عذاب وشقاء، ومنهم الثكالى واليتامى ومنهم من لم يفقدوا صوتك وصراخك وعلى غضبك يستمرون في اللاحياة في آتون الحصار.
أما الآن وبعد أن انبثقت سواعد الحرية من بطن البحر ولوحت لأهل غزة بمناديل الضمير وأعلامه البيضاء وبما تحمله من قلوب حية نابضة مشتعلة وبعد أن سال دمهم القاني على زرقة البحر والحاني على أهل غزة وبعد أن نكل بهم الغزاة وبعد أن عادوا إلى أهاليهم مكفنين وملتفين بعلم الحرية وسالمين من الذل والعار وبعد صحوة الضمير الإنساني المعذب بأعدل قضية على وجه الأرض، اصبحت غزة لو أردت ملكاً لك ولجميع الأحرار في العالم من جموع عفوية بريئة إلى هذه الأقمار المضيئة (نشطاء الحرية والعدالة) والتي تومض وتلمع بألف نجم ونجمة فوق البحار إلى جميع القوى التي لم تفقد ضمائرها ولا تحنث بالمبادئ الإنسانية العامة.
غزة لو أردت كانت ما قبل الحصار وفي الحصار وإلى أن يزول بعونك الحصار، معبرك الوحيد وقد يكون الأخير، الواضح والمكشوف لملاقاة نفسك وإن سدت عليها جميع النوافذ والأبواب والمعابر.
غزة تأن وتنتظر بتسامح ...غزة تدرك جيداً حصار الضمير في العالم وتشفق علينا كلما طال أمد الحصار.. غزة قربان الخلاص الإنساني.. معبرنا الأخير في مواجهة آخر الضواري.
محمد كتيلة
كاتب فلمسطيني يقيم في كندا
التسميات
عرب