محمد عفيفي مطر وريادة الحركة الشعرية المصرية والعربية المعاصرة

“على قدر قوة الاحتمال والصبر وصلابة الإرادة تكون قدرة الكائنات على مغالبة ظروفها الصعبة، والدفاع عن وجودها وتحديد مصائرها، وانتزاع حقها في الأمل والفرح”. ربما لا تصدق الكلمات السابقة على أحد قدر صدقها على قائلها الشاعر الكبير محمد عفيفي مطر (1935 ـ 2010)، أحد أركان الحركة الشعرية المصرية والعربية في تاريخنا الأدبي المعاصر، وصاحب تجربة حداثية شديدة التراكب والتعقيد، والذي وافته المنية الأسبوع الماضي عن عمر ناهز الخامسة والسبعين عاماً، بعد رحلة حياة حافلة بالإبداع الصادق المتفرد المتوهج، وشيعت جنازته في مسقط رأسه بقرية “رملة الأنجب” بمحافظة المنوفية.

انتمى محمد عفيفي مطر إلى جيل “جيل الستينات” الشعري، الذي سعى بقوة ودأب لإثبات شرعيته الفنية وجدة قصيدته الحداثية في مواجهة تيارات شعرية مضادة حاربت بضراوة لنفي تجارب الأجيال الفنية الأحدث منها..

وكان ذلك في سياق رفض أصحاب القصيدة التقليدية لقصيدتهم المحدثة واتهام أصحابها جملة بالخروج على سنن الشريعة الفنية للقصيدة العربية.

ولم يكن أمام رواد حركة الشعر الحديث إلا الثورة على العناصر التكوينية والبنائية للقصيدة الشعرية التقليدية، والجذور الإيقاعية والبنيوية للجملة الشعرية والخيال الشعري “الصورة الشعرية”، والسعي لترسيخ عناصر ومقومات التشكيل الفني للقصيدة الحداثية، في إطار أفق إنساني رحب يتراسل مع آفاق الثقافة العالمية، سواء على مستوى المضمون أو على مستوى الشكل، وكانت مناطحة قوية بين المدرسة الجديدة، مدرسة الشعر الحديث، والمدارس التقليدية السائدة آنذاك.

في سياق هذه المرحلة التاريخية من تشكّل حركة الشعر المصري الحديث في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، بزغ صوت محمد عفيفي مطر الشعري، لاحقاً لصوتي أحمد عبد المعطي حجازي وصلاح عبد الصبور، ومزامناً لأصوات زملائه محمد إبراهيم أبو سنة، وأمل دنقل، وفاروق شوشة.

وتفرد محمد عفيفي مطر من بينهم بمسار شعري ذي طبيعة خاصة ونسيج متفرد قدر الإمكان، وتبدى بوضوح أنه صوت شعري حداثي مفارق لمجايليه أو زملائه ممن سبقوه على الدرب، ومثّل نقطة تحول فارقة في مسار حركة الشعر العربي الحديث، إذ عدّه كثير من النقاد والمتخصصين أحد آباء الحداثة العربية في القصيدة الشعرية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وكان بمثابة الأب الروحي لشعراء السبعينات والنموذج الأوفر حظاً في الاحتذاء واتخاذ قصيدته الشعرية نقطة انطلاق لآفاق أرحب من التجريب والتجديد في القصيدة العربية.

سيرة كاتب وكتابة:
ولد محمد عفيفي مطر الشاعر الحداثي الطليعي في مايو من عام 1935م، بقرية “رملة الأنجب” إحدى قرى محافظة المنوفية بغرب الدلتا، وقضى فترة تعليمه الأولي بها، وحصل على دبلوم المعلمين، ثم انتقل إلى القاهرة ليلتحق بكلية الآداب قسم الفلسفة جامعة عين شمس التي تخرج فيها وحصل على ليسانس الفلسفة منها. وعقب تخرجه وحصوله على الليسانس، عمل مدرساً للفلسفة بوزارة التربية والتعليم.

ومن اللافت أن هذا القسم ـ قسم الفلسفة ـ بالأخص، قد شهد تخرج عددٍ ممن أصبحوا أسماء لافتة في حركة الشعر الحديث، وخصوصاً من أبناء جيل السبعينات، مثل حسن طلب، وجمال القصاص، ومحمود نسيم، وعبد المنعم رمضان الذي انتسب للقسم ذاته ولكنه لم يكمل دراسته به..

كان لعفيفي مطر تجربة فريدة في النشاط الثقافي المصري خلال الفترة (1968 ـ 1972) بإصداره لمجلة “سنابل”، أحد المنابر الثقافية التنويرية التي صدرت بعيداً عن أضواء العاصمة ومغرياتها، في محافظة كفر الشيخ على تخوم الدلتا المصرية، لكنها لم تصمد طويلا تحت وطأة الضغوط التي أدت إلى إغلاق المجلة عقب نشرها لقصيدة أمل دنقل الشهيرة “الكعكة الحجرية” عام 1972م، فترك مصر بعدها وسافر إلى العراق ليعمل بها محرراً في مجلة “الأقلام” العراقية (1977 ـ 1983) واستقر بها لمدة عشرة أعوام، وكان طول مكوثه بالعراق لكل هذه الفترة من الدواعي التي حَدَتْ ببعض شانئيه أن يشيعوا عنه أنه كان عميلا لحزب البعث العراقي، وأنه أحد الأبواق المطنطنة للرئيس العراقي آنذاك صدام حسين.

وخلال هذه الفترة أصدر مطر ديوانه الشهير “أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت” الذي لفت إليه الأنظار بشدة بحدة إيقاعاته وعلو نبرة الرفض والتهكم وبروز علامات التمرد والعصيان الفكري والسياسي والفني معاً، وكان هذا الديوان بياناً صارخاً لحداثة محمد عفيفي مطر الشعرية في سياق حركة الشعر العربي الحديث.

وبعد عودته إلى مصر تفرغ لإبداعاته الشعرية، حيث أصدر خلال هذه الفترة دواوينه ومؤلفاته النثرية، وشارك في كثير من الفعاليات والأنشطة الثقافية والمهرجانات الشعرية والندوات الأدبية.

وفي أوائل التسعينات تعرض لتجربة بشعة، كانت من أشد التجارب وطأة على نفسه، وتركت آثارها في جسده وروحه إلى أن غادر الدنيا، حيث تم اعتقاله عقب مشاركته في مظاهرة ضد التدخل الأميركي في العراق، وخلال فترة اعتقاله تلك تعرض مطر لصنوف من التعذيب الوحشي والإيذاء النفسي والبدني مما كان له آثار بشعة انطبعت على صفحة روحه ونفسه، وعلى ما تبقى له من سنوات عمره التي استمرت عقب هذا الحادث ثمانية عشر عاماً، كان فيها مطر أميل للعزلة والسكون والانطواء، ولم يخفف من وطأتها أو يحد من آثارها حصوله على جوائز أدبية ذات قيمة معنوية ومادية عالية.

وفي ديوانه “احتفاليات المومياء المتوحشة” الصادر عام 1992م، حشد عفيفي مطر كل ملكاته الفنية وقدراته الشعرية ليسجل ويجسد في هذا الديوان ذي الطابع المأساوي تجربته البشعة والمريرة في الاعتقال.

توالت دواوين مطر الشعرية منذ مرحلة باكرة من حياته، حيث أصدر ما يقرب من أربعة عشر ديواناً شعرياً، هي: “مكابدات الصوت الأول”، و”من دفتر الصمت” 1968م، و”ملامح من الوجه الأمبادوقليسي” 1969م، و”رسوم على قشرة الليل”، و”كتاب الأرض والدم”، و”الجوع والقمر” وكلها صدرت عام 1972م، و”شهادة البكاء في زمن الضحك” 1973م، و”النهر يلبس الأقنعة” 1976م، و”يتحدث الطمي ـ قصائد من الخرافة الشعبية” 1977م، و”أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت” 1986م و”رباعية الفرح” 1990م، و”فاصلة إيقاعات النمل” 1993م. و”احتفالات المومياء المتوحشة” 1993م.

أما أعماله خارج دائرة الشعر، فقد ضمت مجموعة كبيرة من المقالات والدراسات النقدية، وعدداً من الكتب والدراسات الأدبية المؤلفة، هي:
“شروخ في مرآة الأسلاف” 1982م، “محمود سامي البارودي: دراسة ومختارات”، بالإضافة إلى إسهامه المبدع في أدب الأطفال، أو إذا شئنا الدقة الأدب الموجه للناشئة، حيث ترك عدداً من غرر الأعمال الفريدة التي كان يعتبرها من فرائده الإبداعية في بابها، منها: سلسلة كتب “مسامرة الأولاد كي لا يناموا” التي ضمت “أقاصيص وحكايات”، و”حكايات الشعر والشاعر”، و”حكايات ومشاهد”، و”صيد اليمام”. كما قام بتسجيل سيرته الذاتية “أوائل زيارات الدهشة هوامش التكوين” عام 1997م.

نال عفيفي مطر العديد من الجوائز والتكريمات على مدار حياته ومسيرته الشعرية، كان أهمها جائزتا الدولة التشجيعية والتقديرية من مصر عامي 1989 و2006م، وجائزة سلطان العويس الإماراتية عام 1999م، وجائزة كفافيس، بالإضافة إلى جائزة الشعر من المؤسسة العالمية للشعر بروتردام، وجائزة “الديوان الشعري العربي المترجم” من جامعة أركنسو عن ديوانه “رباعية الفرح”، وغيرها من الجوائز.

ترجمت أشعاره إلى كثير من اللغات الأجنبية، وكان إبداعه الشعري مادة خصبة وثرية لعدد كبير من أطروحات الماجستير والدكتوراه التي أجيزت في الجامعات المصرية والعربية، وله كم وافر من الدراسات الأدبية والنقدية في الدوريات المختلفة.. وصدرت أعماله الشعرية الكاملة عن دار الشروق في عام 2000م.

تموجات المسار الشعري:
ترك عفيفي مطر ما يقرب من أربعة عشر ديواناً شعرياً حافلا، بدءاً بديوانيه الأولين “مكابدات الصوت الأول”، و”من دفتر الصمت” 1968م، جسدت في مجملها ملامح تجربته الشعرية ورؤيته للعالم، وتميز بعالمه الشعري المتفرد بلغته وصوره ومفرداته وبنيته الشعرية التي تأثرت إلى حد كبير في المرحلة الأولى من شعره بشعر بدر شاكر السياب، وفي مرحلة تالية تأثر بشدة بأدونيس.
فكانت لغته الشعرية شديدة التركيب، تعتمد على الاستعارة والرمز والحلم والمفارقة وغيرها من جماليات البلاغة الحديثة، مترعة بحمولاتها الدلالية المكثفة.

وكانت جملته الشعرية ذات خصوصية تتسم بالتراكب والتداخل وتوالد الصور الشعرية التي تبدو في أحيان كثيرة وكأنها لا تلعب دوراً بنائياً في تكوين القصيدة، وكأنه كان يتعمد ويقصد إلى تشكيل صور مركبة ذات كثافة شعرية عالية مثيرة للدهشة والغرابة في آن واحد، ولكنها في الوقت ذاته لا تنسجم عضوياً لتؤدي دوراً محورياً في إنتاج الدلالة والمعنى الكلي للقصيدة.

وشكلت نصوص عفيفي مطر، في مجموعها، حالة خاصة من حالات اكتناز المعنى وتكثيف الدلالة وتعدد مستوياتها.

تراوحت مصادره ومنابعه التي متح منها وأُشرِبَ بها وحفل بها شعره ما بين الموروث الفلسفي والصوفي العربي الإسلامي والتراث الشعبي بخرافاته وحكاياته الحية المتجسدة وامتداداته عبر مئات السنين، والأساطير سواء في ذلك اليونانية أو الشرقية.

واتكأ مطر في خلق رموزه الشعرية الخاصة على مفردات وعناصر هذا التراث الحي، وقام بعملية مزج خلاق متفرد ما بين التراث العربي واليوناني في عدد من دواوينه، وبالأخص ديوانه “النهر يلبس الأقنعة”.

ولا شك في أن دراسته للفلسفة وتعمقه فيها واختيارها مجالاً للتخصص ـ تتلمذ على عبد الرحمن بدوي ـ كانت من العوامل المؤثرة بشدة في نزوعه العميق نحو الفكر الفلسفي، وطرحه للكثير من القضايا والإشكاليات الفلسفية في ثنايا شعره، وتلوين قصيدته بألوان من الغموض والتراكب صعبت تلقيها على القارئ العادي، كما أنها صبغت شعره عامة بتساؤلات وجودية ومعرفية مغرقة وموغلة في اتكائها على قوة المخيلة ورهافة الحواس.. وأرجع بعض النقاد هذا الغموض الذي يلف قصيدته الشعرية إلى التناقض بين محاولة استلهام آفاق أجنبية وأسطورية ليعبّر بها عن أفكار تنتمي إلى الواقع الشعبي.

وظل عفيفي مطر طوال حياته، وعلى مدار رحلته مع الشعر والإبداع، يسعى بدأب وجهد لشق مساره الشعري المتفرد، ولتطوير قصيدته الشعرية، وتنويع طرائقه الفنية والجمالية، والبحث عن أسلوب خاص ومغاير في الشعرية العربية.

يقول عفيفي مطر في إهداء لافت لحفيديه في صدر كتابه “مشاهد وحكايات”:
“إلى حفيديّ الوليدين: أروى وأحمد لن أكون معكما وأنتما تقرآن هذه الحكايات، سفري بلا عودة وغيابي بلا رجوع، لكني سأفرح فرح التراب ببهجة المطر والخضرة كلما أجدتما القراءة، واتسعت بكما البلاد.. جدكما محمد عفيفي مطر”. وصدقت نبوءة مطر فسفره بلا عودة وغيابه بلا رجوع.

نقاد وشعراء مصريون يقرأون تجربة محمد عفيفي مطر:
شاعر الأوقات الخاطئة!
مثل محمد عفيفي مطر حالة شعرية شديدة الخصوصية والتفرد، وأثار حوله دائرة من الاهتمام كانت تتسع باستمرار، وتنوعت الآراء وتعددت زوايا النظر والتناول النقدي إزاء إبداعه الشعري ومجمل عطائه الإبداعي الذي خلفه وراءه.

في هذا التحقيق نرصد آراء وأفكار طائفة من الشعراء المقربين منه. والنقاد الذين قاربوا إبداعه الشعري من مناظير نقدية مختلفة.
الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة، رفيق درب الراحل عفيفي مطر في مسيرتهما الشعرية، أكد أن الحركة الشعرية المصرية والعربية قد فقدت أحد أبرز الأصوات الشعرية في تاريخ إبداعنا المعاصر، مستعيداً ذكريات البدايات التي جمعتهما معاً، قائلا: “كنا أنا ومطر قد بدأنا معاً في بداية الستينات ننشر قصائدنا الأولى في مجلة “الشهر” التي كان يرأس تحريرها الكاتب المسرحي سعد الدين وهبة، ثم بدأنا بعد ذلك ننشر في مجلة “الآداب” البيروتية التي كان يرأس تحريرها الأديب اللبناني الكبير سهيل إدريس. وكان عفيفي مطر على الرغم من إقامته في قريته “رملة الأنجب” بمحافظة المنوفية، وعمله كمدرس، إلا أنه كان دائم المثابرة على الحضور في الأمسيات الشعرية والندوات الأدبية في الجمعيات الثقافية التي كانت تغص بالنشاط في تلك الفترة من الستينات. ومنذ أصدر ديوانه الأول “من دفتر الصمت” في دمشق عام 1966م، وهو يدأب على النشر في كل المجلات الأدبية.

وفي عام 1969م صدرت عن “دار الآداب” في بيروت الطبعة الأولى من ديوانه “ملامح من الوجه الأمبادوقليسي”، وتزامن معه في العام نفسه صدور ديواني “حديقة الشتاء”، وديوان أمل دنقل “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة”.

وتابع أبو سنة ذكرياته مع الراحل عفيفي مطر، قائلا: “ومنذ ذلك التاريخ في عام 1969م، أصبحنا أنا وعفيفي مطر رفيقي درب الإبداع الشعري، على الرغم من أنه انفرد تماماً بأسلوبه الخاص، ذلك أنه بعد أن تخرج في قسم الفلسفة أصبحت قصائده تغوص في أعماق الفكر الفلسفي، ومن ناحية أخرى تغلغل وعيه في التراث الشعبي ذلك لأنه عاشق للأرض الطيبة التي أنجبته، وكان من الطبيعي أن يكون له ديوان بعنوان “يتحدث الطمي”.

شاعر البصيرة:
الشاعر محمد فريد أبو سعدة عبّر عن حزنه الشديد لوفاة صديقه الشاعر محمد عفيفي مطر، واصفاً إياه بأنه “أكبر شعرائنا بعد صلاح عبد الصبور”، ومؤكداً أن “محمد عفيفي مطر شاعر البصر والبصيرة، شاعر الرؤيا والموقف، وقد دفع ثمناً لا يقدر عليه الكثيرون من أجل قناعاته، ثمناً من التغييب المنظم والقتل المعنوي والاضطهاد، بل والملاحقة والاعتقال والتعذيب”.

وأضاف، بنبرات تنضح بالأسى والحزن الشديد والإحساس بمرارة فقدِ غالٍ عزيز، أن “عفيفي حالة من الحالات النادرة التي تضطر السلطة، والمؤسسة الثقافية فيها إلى أن تمنحه، وهو خصمها، أرفع جوائزها رضوخاً لقيمته في الحياة الثقافية، ليس في مصر وحدها بل في العالم العربي بأسره، كما اضطرت إلى وضعه في لجنة الشعر، حيث تشرفت بزمالته لمدة ست سنوات، واستقال عفيفي من اللجنة، بعد المخالفات التي صاحبت حصول حجازي على جائزة الشعر، وجرحت الموضوعية، التي كان ينبغي الحرص عليها. عفيفي أكبر شعرائنا بعد صلاح عبد الصبور، وكان مع أمل دنقل ومحمد إبراهيم أبو سنة أهم الوجوه الشعرية بعده”.

عطايا الشعر:
الشاعر جمال القصاص، أحد رموز الحركة الشعرية من جيل السبعينات في مصر، قال إن “مطر عاش حياة بسيطة، اتكأ فيها على شعره، وعلى أمله في غدٍ أكثر عدلا ودفئاً وحباً، لم يتكالب على منصب أو جاهٍ، ولم ينافق أحداً، بل ظل على علاقة ندية متمردة على السلطة، رافضاً هيمنتها وسطوتها، وأساليبها في الاحتواء، وخلق جماعات الموالاة والمصالح الشخصية”.

وأكد القصاص في حديثه عن جانب من الجوانب الشخصية التي قد لا يعلمها كثيرون عن عفيفي مطر، أنه “كان قنوعاً بما يملك، يتباهى بما منحته الحياة من عطايا الشعر والعلم والمعرفة. وقد دفعه كل هذا إلى عدم الاكتراث كثيراً بتجاهل تجربته وعدم الاحتفاء بنشر أعماله لسنوات طويلة”.

مخاصمة الثقافة
أما الشاعر عبد المنعم رمضان، فقد أكد أن محمد عفيفي مطر “شاعر الأوقات الخاطئة!”. ومضى يوضح ما يقصده قائلا: “محمد عفيفي مطر دائماً ما يأتي في الوقت الخاطئ، حظه السيئ يجعله دائماً يأتي في الوقت الخاطئ، فمحمد عفيفي مطر تأخر في ظهوره الشعري عن زميله ومجايله أحمد عبد المعطي حجازي. فعلى الرغم من أن محمد عفيفي مطر يكبر حجازي بأشهر قليلة، إلا أن حجازي نشر ديوانه الأول في عام 1959م، فكان له ولصلاح عبد الصبور الذي نشر ديوانه الأول عام 1957م، سبق الريادة المصرية في حركة الشعر الحديث، بينما نشر عفيفي مطر ديوانه الأول متأخراً عنهما بنحو عقد من الزمان. وعلى ما يبدو أن عفيفي مطر دائماً ما يأتي متأخراً عن الوقت الملائم أو متقدماً على ميعاده، وفي الحالتين دائما ما يأتي في توقيت خاطئ”!

وعن تأثر شعراء جيل السبعينات بعفيفي مطر واعتبارهم إياه الأب الشرعي لهم، وهو ما اختلف فيه عبد المنعم رمضان مع أصحاب هذا الرأي، أوضح قائلا: “أنا أختلف مع زملائي من الشعراء الذين جايلتهم ممن يرون هذا الرأي، ويقولون إنهم تأثروا بعفيفي مطر. وأنا أقول إننا جميعاً - عفيفي مطر ونحن - تعرفنا في وقت واحد إلى شعر أدونيس، وتأثرنا به جميعاً، وكان عفيفي واحد من جيلنا لا من الجيل السابق علينا، وهو ما يؤكد ما ذكرته من أنه دائماً ما يأتي في الوقت الخاطئ”.

وعن شعره والمؤثرات التي من الممكن أن يكون قد تأثر بها، يؤكد رمضان أن “شعر محمد عفيفي مطر تأثر بقراءاته، فشعره يشبه المرآة، في أنه يعكس ما قرأه ويعكس ثقافته، فكل ديوان لعفيفي مطر يعكس بدقة كل ما قرأه خلال فترة كتابته للديوان”، وفيما قاله عباس بيضون عقب وفاة عفيفي من أنه تأثر بلوركا، أوضح عبد المنعم رمضان أن “الكلمة صحيحة وخاطئة في آن واحد. صحيح أنه تأثر بلوركا في ديوانه “يتحدث الطمي”، ولكن في دواوينه الأخرى مؤثرات ثقافية مغايرة ولا تنكر”. وعن مدى اختلاف شعره بعد حادثة الاعتقال عما قبلها، يقول رمضان إنه “بعد اعتقاله في التسعينات من القرن الماضي، يبدو أن عفيفي قد خاصم الثقافة خصاماً تاماً، وتأثرت قراءاته كثيراً أو قليلاً، فجاءت دواوينه التي كانت دائما مرآة لما يقرأه، جاءت لكي لا تعكس شيئاً، فظهرت وكأنها أضعف دواوينه على الإطلاق”.

وعن تجربة محمد عفيفي مطر وأبرز سمات حداثته الشعرية، يقول الناقد د. حسين حمودة: “استطاع محمد عفيفي مطر، عبر دواوينه المتعددة، ابتداء من سبعينات القرن الماضي، أن يصوغ معالم تجربة شعرية خاصة به وحده. صحيح أنها تقاطعت، في جانب من جوانبها، مع ما يسمى بشعر الحداثة، ومع التجارب التي قدمها شعراء مجلة “شعر” اللبنانية، لكن محمد عفيفي مطر، مع هذا، استطاع أن يبحث عن صوته الخاص، واستطاع أن ينجح في اكتشاف نبرات مميزة لهذا الصوت”. مضيفاً “ولعل من أهم السمات في هذا المنحى تلك المزاوجة التي نلمحها في شعره بين تقنيات وجماليات الحداثة من جهة، وذلك النزوع التراثي العميق من جهة أخرى. ثمة لغة تحافظ على عبقها القديم، وثمة صياغات، تخلصت من التراكيب الموغلة في الغرابة، وثمة سعي للابتعاد عن العبارات التي تبدو وكأنها مشبعة بروح الترجمة، وهذا كله نجده في قصائد كثيرين من الشعراء الذين انطلقوا من جماليات قصيدة النثر الفرنسية بشكل خاص، وهو ما لا نجده في شعر عفيفي مطر”.

“ومع ذلك يستطيع كثيرون أن يحتجوا على شعر عفيفي مطر بالاحتجاجات نفسها التي تواجه تجربة الأدب الحداثي العربي بوجه عام، من ذلك مثلا انقطاع هذا الأدب عن أي أرضية اجتماعية تمهد له أو تسوغه، ومن ذلك أيضا افتقاد الجسور الحقيقية التي يمكن أن تصل بين الشعر والجمهور الذي يتلقاه”.

قراءة فعّالة
وعن صعوبة تلقي نصوص عفيفي مطر وكيفيات قراءتها وآليات هذه القراءة، يشير الناقد د. رمضان بسطاويسي في دراسة له عن شعر محمد عفيفي مطر إلى أن “تجربة محمد عفيفي مطر لا تجعل الكتابة عنه متعلقاً بفك رموز المعاني في النص، وإنما بقراءة فعّالة تنتج النص اللا مكتوب، والمضمر والخفي الذي يشير إليه بشكل غير مباشر؛ لأن نصه لا تهيمن عليه منطق الهوية الذي يرى أن هناك تطابقًا بين النص والواقع، وإنما النص لديه توليد للمفارقات والتناقضات بين النص الشعري والواقع، ولذلك فإن مفتاح قراءته هو إدراك هذا الاختلاف الجوهري بين الواقع والنص، وعبر هذا الاختلاف تتولد دراما شعرية وسردية، ولذلك تظهر الثقافات المتصارعة في نصه في التعبير عن الحدث الواحد الذي يشير إليه، وهوية الشاعر عفيفي مطر في كتابة النص هي أداة لاختلافه مع الواقع والتحرر منه، وفي قصائد عفيفي مطر لا يجعل للوعي بصورته الساذجة المجردة أسبقية مطلقة، فليس هناك إطار مرجعي واحد، وإنما ثقافات متداخلة في وعي الأمة التي ينتمي إليها، وهو يقدم في قصائده تجربته الحية مع النصوص المدونة والنصوص الحية التي تتمثل في أفعال البشر والثقافة الشعبية”.

ويضيف بسطاويسي: وفي دواوينه الأخرى مثل الجوع تتجسد براعة عفيفي مطر في استخدام أقنعة المسرح في شعره، وخاصة في ديوانه “البكاء في زمن الضحك” وكذلك استعادته لتقنيات متعددة التشكيل في أعماله مثل أسلوب المونولوج الداخلي، وهو مَنْ أبرز تيار الوعي لأبطاله داخل القصيدة، وهو يستعين بهذه التقنية حين يقترب صوته المباشر من الظهور، حتى لا يمزق الستارة التي يتقنع بها الشاعر”.

ويوضح بسطاويسي ملابسات تعرفه الأول بقصيدة عفيفي مطر، قائلا: “ديوان “رسوم على قشرة الليل” الذي جذبني كثيراً بموسيقاه الدافقة التي جعلتني أتعرف إلى عالمه الشعري وفلسفته في الكتابة، وقد كتبت عن الديوان الجديد الذي صدر وقتها لمحمد عفيفي مطر “أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت” في مجلة “ألف” التي تصدرها الجامعة الأميركية بالقاهرة تحت عنوان “أنطولوجيا الجسد والإبداع الثقافي في شعر مطر” 1991، وهزني إهداؤه الذي يقول فيه “إلى محمد: سيد الأوجه الطالعة، وراية الطلائع من كل جنس، منفرط على أكمامه كل دمع، ومفتوحة ممالكه للجائعين، وإيقاع نعليه كلام الحياة في جسد العالم”.

الروائي وحيد الطويلة ودعه بعبارة مقتضبة وموجزة، لكنها دالة وموحية، قائلاً: “كان يلومني بصدر العارف ويقول متى تعود، كنت أتمنى أن أعود لأراه لمرة أخيرة، كان يستعجلني ويلومني لومَ الأب المحب، نعم حارس اللغة ينتقل إلى دفتر الصمت”.
إيهاب الملاح
أحدث أقدم

نموذج الاتصال