مات نصر حامد ابو زيد في مصر، ودُفن في قريته قحافة قرب طنطا، لكن لا الموت ولا القبر استطاعا ان يمحوا غربة هذا المفكر المصري، التي صارت رمزا لغربة الثقافة العربية في زمن الهزيمة.
خرج نصر شبه هارب من مصر، بعدما صدر القرار القضائي بتفريقه عن زوجته بتهمة الردة. غادر المثقف وطنه الى هولندا، لأنه رفض النبرة التفتيشية في محاكمته، رفض ان يقول الشهادتين امام القاضي، لأنه لا يحق للقاضي ان يتدخل بين الانسان ومعتقداته، لكنه في محاضرته الافتتاحية في غربته الطويلة، بدأ بالبسملة، معلنا ان حرية المعتقد حق مقدس للإنسان.
شاءت المصادفة ان يهاجر صاحب 'التفكير في زمن التكفير' ليلة 23 تموز- يوليو1995، بما يحمله هذا التاريخ من دلالات رمزية. لقد طردت مصر احد اهم مفكريها في ذكرى ثورة الضباط الأحرار، كي تقول لنفسها انها نسخت الثورة من تاريخها، وان تخليها عن ارث التحرر الوطني، لا يعني سوى السقوط في ظلام الانحطاط.
دعاني الصديق محمد علي الاتاسي الى منزله في بيروت لمشاهدة فيلم وثائقي رائع اخرجه عن نصر حامد ابو زيد، قبل ان يسافر مع فيلمه الى مرسيليا لعرضه في مهرجان للأفلام الوثائقية. كان ذلك ليل الاحد 4 تموز- يوليو الجاري. كنا نعلم ان المفكر المصري سقط في الغيبوبة بعد اصابته بفيروس في اندونيسيا، وان حاله الصحية سيئة، لكننا لم نعرف الا في صباح اليوم التالي، اننا قضينا ساعة ونصف الساعة في صحبة ابي زيد لحظة موته!
كان ابو زيد رائعا في فيلم الأتاسي، رأيته هنا مثلما رأيته للمرة الأولى في نيويورك، كان متواضعا ودمثا وخلوقا، يتصرف كالكبير اذا اتضع، ويحمل في داخله صورة الفلاح المصري الذي لا يستطيع الانفصال عن جذوره، والذي ارتضى ان يكون شهيداً حياً، كي يبقى شاهداً وحافظا لكرامة الثقافة العربية في زمن انهيار الكرامات.
في حوار اجريته معه ونُشر في 'ملحق النهار'، روى ابو زيد عن علاقته بالنوم في المنفى. قال انه لم يعد قادراً على النوم في الليل، ينام ساعة ثم يستيقظ، يجد نفسه غريبا في نومه مثلما هو غريب في يقظته.
هذا الشعور بالغربة، هو عنوان الثقافة العربية اليوم. ان تكون غريبا ومرفوضا، ان يجرؤ عليك السفهاء، بل ان تنتصر السفاهة مستغلة قانوناً عجيباً هو قانون الحسبة، كي تحاكم الفكر بلغة الرعاع، وتمتحن الفلسفة بمنطق الخرافة، وتجبّ تاريخ الفكر العربي والاسلامي، وترميه في سلة المهملات.
مصر ومن خلفها المشرق العربي، محكومة بمنطقي الديكتاتورية والظلام. اجتمع المنطقان على هذا المثقف المصري النبيل، وخاضا ضده معركة استباحة الثقافة المصرية وتدميرها.
كان ابو زيد يعلم ان معركته ليست فقط حول تأويل النص المقدس او حول علاقة النص بالتاريخ، بل هي ايضا حول علاقة السلطة بالمجتمع. فالسلطة القمعية، التي انسحبت من المعركة الوطنية ضد الاحتلال الاسرائيلي، وخضعت في شكل كامل للهيمنة الامريكية، وفتحت الاقتصاد الوطني للنهب على ايدي افراد طبقة جديدة لا تأبه بالقيم، هي السلطة التي ارتضت تقسيميا وظيفيا بينها وبين الظلاميين، تعطيهم الثقافة والمجتمع، وتُحكم قبضتها على السياسة.
مأساة المثقف المعاصر تختلف جذريا عن مأساة اسلافه في زمن تأسيس الحداثة. طه حسين او علي عبدالرازق وبعدهما صادق جلال العظم واجهوا قمع السلطتين الدينية والسياسية، لكنهما كانا في مأمن اجتماعي. يومها لم يكن المجتمع قد أُسقط في الهزيمة، وانتهك بالقمع، فلم يعد امامه سوى اللجوء الى الخرافة، مثلما يحصل اليوم.
بهذا المعنى تكون تجربة نصر حامد ابو زيد هي التجربة الأنبل، لأن غُربة ابن الريف المصري كانت الأكبر. ومع ذلك لم ينحن ولم يستسلم. لا الغرب اغواه كي يصير احد الأبواق الثقافية المعادية للاسلام، ولا الخوف من سلطة السفهاء جعله ينحني. بقي مثقفا حراً واكاديمياً لامعاً ومناضلاً من اجل النهضة العربية، ومقاوماً وشريفاً.
والله يا صاحبي لقد اجتمعت فيك الغربتان، غربة عن الأهل وغربة في وسط الأهل، فكان موتك كموت الشهداء، مليئا بالعطاء وامثولة لنا جميعاً.
شاء لك القدر ان تغمض عينيك في مصر، وان تدفن في القرية التي عرفتك فقيراً ومكافحاً وشيخاً، صحيح ان الموت لم يفك اسرك وأسر غربتك، لكنك ارتضيت ان تكون غريباً، وانقذت شرف الثقافة العربية والفكر النهضوي.
كانت تغريبتك درسا لنا في الشجاعة والموقف الاخلاقي، وكنت كأسلافك العظماء من ابن رشد الى ابن عربي، وفياً للعقل وتلميذا للحكمة.
سوف تبقى يا نصر في ذاكرة الثقافة العربية التي ستنفض عنها هذا الانحطاط يوما، وسوف تكون تجربتك درساً للأجيال تعلمهم ان مثقفاً من بلادهم، اسقط الانحطاط بفكره، وهزم زمن الظلام بعقله، وانتصر على فقهاء الهزيمة بشجاعته.
التسميات
دراسات أدبية