الصحافة المصرية والسقوط في قاع التدني في الأداء المهني.. السادات يعود بسلام إلى بيته بعد اغتياله ومبارك بصحة جيدة رغم أنف التقارير الطبية

لعلها كانت واحدة من أطرف وأعجب الوقائع والمفارقات في تاريخ الصحافة المصرية.
كان الرئيس السادات يسبح في دمه على منصة العرض العسكري صباح 6 تشرين الأول/أكتوبر 1981، كان العرض الأخير من نوعه إلى الآن، وكانت الأنفاس الأخيرة في حياة السادات، كان الرئيس قد قضى نحبه، بينما كانت صحيفة 'المساء' المصـــرية تخرج بمانشيت عريض على صدر صفحتها الأولى، يقول إن الرئيس السادات عاد بسلامة الله إلى بيتــــه بعد العرض العسكري الباهر، ومع صور من الأرشيف، يبدو فيها الرئيس السادات بكامل أناقته العسكرية، وبعصا الماريشالية التي يهش بها على صحفه.
تذكرت هذه الواقعة الطريفة، التي تمثل قمة الخيبة، وقاع التدني في الأداء المهني، وأنا أطالع تصــــريحا معـــــمما نشــــرته صحف مصر كلها قبل أيام، صاحب التصــــريح وزير الإعلام، واسمه بالمناسبة: أنس الفقي، ينفي الفقي بجرة كــــلام كل تقارير الصحف الأمريكية والبريطانية والإسرائيلية عن تدهور صــــحة الرئيس مبارك، التي استند أغلبها إلى تقــــارير وصور مخــابراتية جدا، وأكد الفقي أن مبارك في صحة جيدة وتمام العافية، وأن ما نشر مجرد شائعات، وأن الرئيس لم يجر أية فحوصات طبية بعد عملية إزالة المرارة، ولم يتطرق الفقي ـ بالطبع ـ إلى قصص مفصلة نشرت عن السرطان والعد التنازلي للأيام الباقية. 
وقد استقبل الرأي العام المصري تصريحات الفقي على طريقته، فالمصريون يقرأون التصريحات الرسمية بالمقلوب، ويعتبرون النفي إثباتا، أو ربما يخلط الناس بين الأماني والحقائق، ويقرأون كما يحبون، ويكذبـــــون ما يكرهون، وقد تعودوا الكذب المنتظم من وزراء وصحف مبارك، ولا مانع عندهم من إضافة كذبة أخيرة قد تكون هي ذاتها الشهقة الأخيرة. 
وفي الجملة، فقد غامت حقائق الحالة الصحية للرئيس مبارك، وصارت مصر في حال 'الانتظار الطويل' على حد العنوان البليغ الموحي لتقرير مجلة 'الإيكونوميست' الأخير عن مصر، بدت مصر في حال انتظار لموت سياسي طال عمره، وبالطبع، نحن نتمنى الشفاء لشخص مبارك، وإن كنا لا نتمنى له أن يظل رئيسا، وقد لا تأتي لــــنا الأقدار بأمنياتنا ولا بأمنياته، فالموت مصير الناس جميعا، وأيا ما كانت الحالة الصحية لمبارك، فقد مات نظامه السياسي من زمن، ودخل من سنوات في حالة 'التحلل الرممي' بلغة الأطباء، وتحول إلى جثة بروائح كريهة تسد الطريق العام، وتحجز عين مصر عن عين الشمس. 
وربما لا يعرف أحد ـ غير الله ـ متى تأتي الساعة، وإن كنا نعرف ـ باليقين ـ أن الرئيس ذاهب، وبأقرب مما توحي به الظنون، لا ينصرف السبب ـ فقط ـ إلى صحة الرئيس، وقد تآكلت أطرافها وغامت حقائقها، وبدت كمومياء فرعونية مرممة بعناية، وأيا ما كانت حظوظ الرعاية الطبية للرجل، فإن صحة نظامه ذهبت بددا، وانتهى النظام إلى ركام، وإلى موت ظاهر تدافعت علاماته عند جذع المخ، فالسلطة ـ أي سلطة ـ هي الإذعان مقابل الإشباع، وقد كف نظام مبارك عن أن يكون سلطة بأي معنى مقبول أو معقول، وتحول ـ من زمن ـ إلى تسلط مكشوف الغطاء، يطلب الإذعان مقابل العجز، وليس الإذعان مقابل إشباع يعجز عنه كليا، فثمة عجز نهائي مطلق عن تجديد قواعد اجتماعية وسياسية تسند بقاءه، وثمة قبضة يد تخشبت، ثمة 'تخشب رممي' يبعث النظام على هيئته يوم القيامة في الدنيا قبل الآخرة، ثمة دفاتر رحيل تكتب حروفها الأخيرة، وتطــــوي أوراقها، وفي ظروف ملتبسة، فيها مزيج من هواجس التربص ودواعي الفرص، ومراسم دفن تجري في ظلام 'المؤسسة'، وشارع تائه أقرب إلى أحــوال الغبار البشري، ونخب معلقة كما نظام معلق، وشبكة مواصلات مقطوعة تحجز آبار الغضب عند القواعد الاجتماعية في العمق، وتفصلها بهمومها عن حمل رايات غضب سياسي يبدو جهيرا زاعقا فوق السطح. 
وقد لا يعرف أحد ـ على سبيل القطع ـ اسم الرئيس التالي لمصر، وربما لا يتوقع أحد ـ بالوضوح كله ـ صورة مصر عند لحظة الرحيل ومفارق الطرق، فمصر تبدو ـ الآن ـ بلدا على رصيف التاريخ، يستبد بها الشـــعور بالحيرة، وتفلــــت منها المواعيد وحسابات المكان، لا تعرف على أي محطة تقف؟، ولا يدري أحد إلى أين المـــفر والمستقر، فثمة إمكانية متكافئة لانزلاق إلى انقلاب، أو إلى دواعـــي ثورة، ولا تبدو مواعيد الختام القريب هي نفســــها شواطئ الراحة، فثمة غضـــــب مكبوت ينذر بانفجار، وأيا ما كان اسم الرئيس التالي، وســـواء بادر بإطلاق الحريات، أو استــــمر في العصف بالحريات، فنحن بصدد بلد تأخرت مواعيـــد خلاصه، وبصدد رئيـــس تأخرت مواقيته، ولن يقدم على أي تعــــديل، أو تصحــــيح لخطوط الســــير في أيامه الأخيرة، ليـــس لأنه لا يرغب، بل لأنه لا يقدر، فهو عند نـــــهاية طريـــــق فقد بوصلــــته، وعند قبضــــة يد خشبية لا تنفك أصابعها، ويعرف بالغريزة أن لم يعد له خيار، وأن فواتير الحساب في انتظاره، وأن الانتقال من القصر إلى القبر أهون من انتظار الهوان في قفص الاتهام. 
ومواعيد الرحيل في مصر كانت دائما مواسم شعور عام، عندما رحل الرئيس عبد الناصر فجأة، وهو في أوائل الخمسينيات من عمره، تدفقت أحزان مصر الباكية إلى شوارع الحنين، وشهدت مصر أكبر جنازة في التاريخ الإنساني كله، وعندما اغتيل السادات على منصة العرض العسكري في 6 تشرين الاول/أكتوبر 1981، لم تكن ثمة جنازة خارج الطقس الرسمي البارد، وكان جهاز الأمن المذهول يصل بمعاركه الدامية إلى أسيوط عاصمة الجنوب المصري، وعندما يرحل الرئيس مبارك، ربما لا تجد حزنا ولا ذهولا، بل إفاقة من نوم، وربما لا تجد غير جنازة الطائرات الخاصة الهاربة بالمماليك والأغوات والمليارديرات، صحيح أن مصر الحديثة لم تعرف حكاما رحلوا باختيارهم عن القصر قبل أوان القبر، لكنها لم تعرف حاكما امتد به العمر في الحكم كما الرئيس مبارك، فقد تولى مبارك الرئاسة، وهو في سن أكبر من السن التي رحل عندها الرئيس عبد الناصر.
وبدت سنواته الثلاثين في الحكم ـ حتى الآن ـ كأنها الألف عام، زمن بليد راكد ضاغط داهس، زمن كطائر الرخ يرخي سدوله، ويقصف الأعمار والأجيال، ربما لذلك، بدت أغلب نكات المصريين السياسية مشغولة بشيئين، مشغولة بفساد النظام، ومشغولة بعمر الرئيس مبارك الذي طال بأكثر مما عهدوا وتوقعوا، بدت النكات لاذعة مرة، وبدت في النكات ـ التي نعتذر عن عدم سردها ـ حيرة عزرائيل نفسه، وكلما تقاطرت سنوات مبارك، تقاطر عذاب المصريين، وتفاقم شعورهم بالضآلة والدونية وسوء الحظ، وتراكم الشعور باليأس وانعدام الأمل، وزاد الإحساس بالاحتجاز في نفق طويل بغيرلمحة ضوء في نهاية لا تجيء، وبالسجن المزمن بغير أمل باد في انتظار قرار إفراج، فلم يعد المصريون يصدقون أن الرئيس مبارك سيرحل يوما، رغم أن الموت علينا حق، وعلى الرئيس أيضا. 
عبدالحليم قنديل
أحدث أقدم

نموذج الاتصال