البخل وعدم الإنفاق وانفصام الروابط داخل الأسرة.. نفور الزوجة من زوجها. شعور الأولاد والزوجة بالحرمان. تقطيع الرحم والروابط الاجتماعية

البخل هو الإمساك عما يحسن السخاء فيه، وهو ضد الكرم، وهو من السجايا الذميمة، والخلال الخسيسة، الموجبة لهوان صاحبها ومقته وازدرائه، وقد عابها الإسلام، وحذر منها تحذيرا رهيبا.

وقال تعالى: (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل، ويكتمون ما آتاهم الله من فضله، واعتدنا للكافرين عذابا مهينا) ([1]).

وقال تعالى: (ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خير لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة) ([2]).
وإذا كان البخل مذموما في كل أحواله فان البخل في الحياة الزوجية اشد خطرا على تلك الحياة ,فالمرأة تكره الزوج البخيل ولا تحب الارتباط به.

َخَطَبَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وَفَتًى مِنْ الْعَرَبِ امْرَأَةً، وَكَانَ الْفَتَى جَمِيلًا، فَأَرْسَلْت إلَيْهِمَا الْمَرْأَةُ: لَا بُدَّ أَنْ أَرَاكُمَا، وَأَسْمَعَ كَلَامَكُمَا، فَاحْضُرَا إنْ شِئْتُمَا، فَأَجْلَسَتْهُمَا بِحَيْثُ تَرَاهُمَا. فَعَلِمَ الْمُغِيرَةُ أَنَّهَا تُؤْثِرُ عَلَيْهِ الْفَتَى، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: لَقَدْ أُوتِيتَ حُسْنًا وَجَمَالًا وَبَيَانًا. فَهَلْ عِنْدَك سِوَى ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَعَدَّدَ عَلَيْهِ مَحَاسِنَهُ، ثُمَّ سَكَتَ. فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: فَكَيْفَ حِسَابُك؟ فَقَالَ: لَا يَسْقُطُ عَلَيَّ مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِنِّي لَأَسْتَدْرِكُ مِنْهُ أَقَلَّ مِنْ الْخَرْدَلَةِ، فَقَالَ لَهُ الْمُغِيرَةُ: لَكِنِّي أَضَعُ الْبَدْرَةَ فِي زَاوِيَةِ الْبَيْتِ، فَيُنْفِقُهَا أَهْلُ بَيْتِي عَلَى مَا يُرِيدُونَ، فَمَا أَعْلَمُ بِنَفَادِهَا حَتَّى يَسْأَلُونِي غَيْرَهَا، فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: وَاَللَّهِ لَهَذَا الشَّيْخُ الَّذِي لَا يُحَاسِبُنِي أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الَّذِي يُحْصِي عَلَيَّ أَدْنَى مِنْ الْخَرْدَلَةِ. فَتَزَوَّجَتْ الْمُغِيرَةَ. ([3]).

وإذا ما أوقعها قدرها في زوج بخيل فإنها تتمنى الانفصال عنه، ولكن خوفها على أولادها، وحرصها على بيتها يحملانها على الصبر.
والمشكلات الناتجة عن بخل الزوج، كثيرة منها:

 1- نفور الزوجة من زوجها:
وهذا يؤدي إلى تصدع البنيان الأسري، فالمرأة مفطورة على حب إكرام زوجها لها، وهي تعتبر إكرامه لها من أهم معايير حبه لها، ومن هنا فهي تحب الزوج الكريم، وتكره الزوج البخيل.

روي أن أحد الأزواج البخلاء طبخ قدراً من الطعام وجلس يأكل مع زوجته، فقال: ما أطيب هذا الطعام لولا كثرة الزحام!! فقالت امرأته: أي زحام ولا يوجد إلا أنا وأنت!! فقال: كنت أحب أن أكون أنا والقدر فقط!.

وقيل إن امرأة بشَّرَتْ زوجها البخيل بأن ابنها بدأت أسنانه تظهر، فقال: أتبشرينني بعدوّ الخبز؟!! اذهبي إلى أهلك!.
وهذا أحد البخلاء اسمه عيسى وصف أحد لشعراء شدة شحه فقال: يقتر عيسى على نفسه... وليس بباق ولا خالد ولو يستطيع لتقتيره... لتنفس من منخر واحد.

2- شعور الأولاد والزوجة بالحرمان:
وهذا يسبب لديهم عقداً نفسية قد تؤدي إلى سلوكيات ضارة ممقوتة كالسرقة، والانتقام والغيرة.. وغير ذلك.
لان من حق الزوجة على زوجه أن يوفر لها ما يضمن لها حياة آمنة كريمة.

 روى حكيم بن معاوية عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله، ما حق الزوجة على أحدنا؟ قال: "أن تَطعمها إذا طَعِمْتَ، وأن تكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه ولا تقبّح، ولا تهجُر إلا في البيت" ([4]).

3- قد تضطر الزوجة إلى الأخذ من مال الزوج دون علمه:
حتى توفر لنفسها وأولادها الاحتياجات الأساسية.. وقد أباح الشرع ذلك شريطة أن تأخذ بالمعروف على قدر الاحتياج.

فعن عائشة (رضي الله تعالى عنها) قالت: "دخلت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني إلا ما أخذته من ماله بغير علمه، فهل علي من ذلك من جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك"([5]).

وإن كان الشرع أباح ذلك، إلا أن الأمر إذا اكتشفه الزوج قد تجد الزوجة نفسها مضطرة أحياناً إلى الكذب وإخفاء الحقيقة خشية العقاب أو إثارة المشاكل، ومن ثم تغيب الشفافية والمصارحة عن أجواء البيت.

4- تقطيع الرحم والروابط الاجتماعية:
فالبخيل يرفض زيارة الأقارب والأصدقاء والآخرين تجنباً للمصروفات وشراء الهدايا، وهو أيضاً يعرض عن زيارتهم له، لأن ذلك سيكلفه واجبات الضيافة.

هجا أبو نواس سعيداً بن سليم بن قتيبة ناعتا إياه بالبخل، فقال:
رغيف سعيد عنده عدل نفسه -- يقلبه طورا وطورا يداعبه
ويأخذه في حضنه ويشمه -- ويلثمه حينا وحينا يلاعبه

5- وقوع ألم نفسي وجسدي بسبب الحرمان الذي تعانيه الزوجة والأطفال:
مما يؤدي إلى مشكلات أسرية تنعكس على الصحة النفسية لأفرادها، والتأخر الدراسي لأولادها، وقد ينتهي الأمر إلى الطلاق.

وروى أنَّ رجُلاً كان يأكل مع زوْجَتِه الدجاج، فإذا بالباب يُطْرق، فقامَتْ لِتَرى من الطارق، فإذا بالباب سائِلٌ، فالزوجة أرادت أنْ تُطْعم ذاك السائل، ولِبُخل الزوج صار يسبّها ويعَنَّفُها، وقال: اطْرُديه، فَطَرَدَتْهُ، وعادت، ولا زالت العلاقة تسوء بينه وبيْنها إلى أنْ طلَّقها، وبعد تطْليقها تَزَوَّجَها إنْسانٌ آخر فقير، وهذا الإنسان أخذ اللهُ بِيَدِهِ حتى أصْبح غَنِيّاً، ومرَّةً كانت تَجْلِسُ معه يأكلان الدجاج، وإذا بالباب يُطْرق، وعادَتْ مُضْطَربة فقال لها: ما بك؟ فقالت: لا شيء، سائِلٌ، فقال: من هذا السائِل؟! قالَتْ: إنه زوْجي الأول، قال: أَتَعْلمين من أنا؟ أنا السائِلُ الأول!!.

6- بغض الله تعالى للبخيل:
ثم بغض الناس له حتى أقرب الناس منه، كما قال ربنا عز وجل: "ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون" ([6]).

قال رجل من البخلاء لأولاده: اشتروا لي لحماً، فاشتروه، فأمرهم بطبخه، فلما استوى أكله جميعه حتى لم يبق في يديه إلا عظمة، كل هذا وعيون أولاده ترمقه.

فقال: لن أعطي هذه العظمة أحداً منكم حتى يحسن وصف أكلها.
فقال ولده الأكبر: أمشمشها يا أبتِ وأمصمصها حتى لا أدع للذر فيها مقيلاً.
قال الرجل: لست بصاحبها.
فقال الابن الأوسط: ألوكُها يا أبتِ وألحسها حتى لا يدري أحد لعام أو لعامين.
فقال الرجل: لست بصاحبها، فقال الأصغر: يا أبتِ أمُصُّها ثم أدُقها وأسفّها. قال: أنت صاحبها وهي لك. زادك الله معرفةً وحزماً!.

وهجا ابن طباطبا بخيلا فقال:
أجاع بطني حتى -- شممت ريح المنية
وجاءني برغيف -- قد أدرك الجاهلية
فقمت بالفأس حتى -- أدق منه شظية
تلثم الفأس وانصاع -- مثل سهم الرمية
فشج راسي ثلاثا -- ودق مني الثنية.

قال بخيل لغلام: بكم تعمل عندي؟
قال الغلام : بطعامي.
فقال البخيل: راعني قليلا.
فقال الولد: إذا أصوم الأثنين والخميس.

وهناك نوع آخر من البخل في الحياة الزوجية وهو بخل العاطفة والمشاعر، وإن بخل الزوج بالعاطفة والمشاعر أشدُّ على الزوجة من البخل بالمال، وفي كليهما أذى وإيلام للزوجة.

فقد تحتمل الزوجة بخل الزوج بالمال، ولكنها لا تستطيع أن تتحمل بخله بالعواطف والمشاعر وكلمات الثناء، وقد تعوض الزوجة شح إنفاق الزوج بمساعدة أهلها لها، أو بعمل تعمله، أو بدخل يأتيها، أو ولد يكرمها، لكن إذا بخل الزوج بعواطفه ومشاعره وحبه وحنانه الزوجي فلا طريق إلى تعويض ذلك لدى الزوجة.

وإن نعجب فعجب أن يكيل الزوج لزميلاته أو قريباته كلمات الثناء والشكر والإطراء والإعجاب بغير حساب.

وقد يكون بخل المشاعر والعواطف –كذلك –من جانب الزوجة، فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لاَ يَنْظُرُ اللهُ إِلَى امْرَأَةٍ، لاَ تَشْكُرُ لِزَوْجِهَا، وَهِيَ لاَ تَسْتَغْنِي عَنْهُ. ([7]).

ولقد علمنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، أن نستعيذ بالله من البخل، فقد كان يقول في دعائه: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ».([8]).

([1]) النساء: 37.
([2]) آل عمران: 180.
([3]) (ابن منظور : مختصر تاريخ دمشق 7/384).
([4]) رواه أحمد 4/446، وأبو داود (2142) وابن ماجه (1850) والاكم (2/187) وصححه ووافقه الذهبي.
([5]) (متفق عليه).
([6]) التغابن: 16،
([7]) أخرجه النَّسائي في "الكبرى" 9086 والحاكم (2/207، رقم 2771) وقال: صحيح الإسناد.
([8]) أخرجه أبو داود (2/93، رقم 1555).
بدر عبدالحميد هميسة
أحدث أقدم

نموذج الاتصال