من أخبار أهل الحل والعقد في الزمن الغابر.. منزلة الحياء في شريعتنا الغراء. فضل العلم ومتعلمه. رحمة الضعفاء

كان العلماء وما زالوا شموس هداية للناس ينشرون العلم ويقتفون أثر النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا بهم قدوات حية تسير بين الناس وتقرب لهم حياة السلف الصالح .
وهكذا كان شأن العلماء على امتداد تاريخ الإسلام .. وحتى هذا الزمان .
فكم من عالم تناقل الناس اسمه وعلمه ، وجهلوا حاله وأخباره التي تعد نوادر للمسلمين أن يفخروا بها وينتهجوا أثرها .
وقد رأيت أن أبدأ هنا بذكر أخبار بعض هؤلاء العلماء المعاصرين أداءاً لحقهم واقتداءاً بسيرتهم .
*  يقول الشيخ محمد الشنقيطي :
" أذكر رجلاً كان في ضعف وضيق حال؛ كان يذهب ويسعى لوالده فإذا جاء بالأجرة في يومه جاء ووضعها على الطاولة ويستحي أن يمد يده لأبيه، فلما سألته وقلت له لم؟
قال: أستحي أن أرفع يدي على يد أبي فتكون منة على والدي .
قال ( يحكي وهو عالم من العلماء ): كنت لما أضع المال بين يديه يدعو الله ويقول : اللهم ارزق ابني القرآن واجعله من أهله.
فبلغ أكثر من عشرين عاماً وهو تائه في الأعمال ، حتى شاء الله يوماً وهو راجع من عمله أن يلتقي بعالم كان عمدة للفتوى في بلده .. فقال : أي بني ، ما هذا الذي أنت فيه ؟
قال : ما ترى .. أسعى في الرزق
قال : هل لك أن تجعل لي يوماً من أسبوعك ؟
قال : نعم ، ونعمت عيني بذلك
فما زال يتردد على ذلك العالم حتى جاء اليوم الذي يناقش فيه رسالة في الدكتوراه في تفسير القرآن العظيم
فلما دعي إلى المناقشة وجلس إذا بشيخه وأستاذه يقوم له مهابة وإجلالاً لما كان فيه من العلم .. وقال : تفضل يا شيخ فلان .. فجلس يبكي
فقال له: تبكي ونحن نريد أن نجلك ؟!!
قال : ذكرت دعوة أبي رحمه الله ".
" رحمة الضعفاء " محمد الشنقيطي
*  يقول الشيخ الطحان :
" ذكر لي بعض إخواننا عن شيخنا الصالح عبد الرحمن زين العابدين قصة عن شيخ الإسلام الشيخ مصطفى صبري عليه رحمة الله ( ت 1373 هـ ) ، وكان شيخ الإسلام والمسلمين في آخر خلافة إسلامية انقضت ، وهاجر من تركيا بعد سيطرة الكماليين عليها.
هاجر إلى بلاد الشام ثم إلى مصر وعاش غريباً فريداً حتى لقي ربه.
عندما كان في بيروت جاءه بعض أصحابه ليسأله ، وهو في الحقيقة يريد أن يعطيه ، فجاءه في ليلة عيد الفطر وقال : تعلم أنني صاحب مكانة ووجاهة وجئت إلى هنا مهاجراً وسيدخل علي العيد وليس عندي شيء ، فأريد أن تعطيني خمس ليرات ذهبية لأتوسع بها في يوم العيد وأصون وجهي أمام الناس.
يقول هذا الشخص : نظرت إلى الشيخ وقد احمر وجهه وبدأت الدموع تسيل من عينيه كالمطر وهو يلتوي كالحية.
فقلت : أخبرني ماذا عندك ، لم تفعل هكذا ؟
فقال : يفرج الله
قلت : علمت حالك
فقال الشيخ : سترنا الله في الدنيا ونسأله أن يسترنا في الآخرة ؛ والله ما عندي شيء أتعشاه في هذه الليلة فضلاً عن شيء أفطر به يوم العيد.
فقال : ما جئت لأسألك ؛ أنا عندي عشر ليرات ذهبية وعلمت أنه سيدخل عليك العيد وهذا حالك بقرائن الأحوال ، أتابعك من أيام .. وهذه خمس ليرات نقسم العشرة بيني وبينك
فقال الشيخ : لا آخذها
قلت : ولله إن لم تأخذها قتلت نفسي – وأخرج مسدساً ووضعه على جبينه – أنت شيخ الإسلام ويدخل عليك العيد وما عندك طعام تأكله ؟!
يقول : حتى أخذها . وقلت له ليسهل عليه الأخذ : هي قرض ليست هدية ؛ فإذا أيسرت ترد ، وإلا فالله يسامحك ".
" منزلة الحياء في شريعتنا الغراء " عبد الرحيم الطحان
*  أجاب الشيخ محمد بن محمد المختار الشنقيطي عن سؤال عن والده رحمه الله بما مختصره:
" الله شهيد عن كل ما أحدث به أنني رأيته وسمعته ؛ أشهد شهادة لله أنه ما كانت الدنيا تزن عنده شيئاً ، ومن أعظم ما وجدت فيه أنه لما انصرف قلبه عن الدنيا بارك الله له في علمه ؛ فكان رحمه الله لا يبالي بقليل المال ولا كثيره ، ويأتيه الراتب والله قد لا يمضي نصف الشهر إلا ويقترض رحمه الله : هذه مائة لفلان وهذه لفلان .. فيفرق ماله .. كنت أتولى بعض صدقاته فهذا شيء رأيته ؛ ما يبقى من راتبه شيء.
ذات مرة كانت له مزرعة حفر فيها بئراً بمائة ألف ريال ، فلما انتهى الحفر جاء الحافر ليقول له إن البئر ليس فيها ماء – وهذه مصيبة عظيمة – فقال هذا الرجل يريد أن يهون على الوالد : إن شاء الله مستقبلاً الماء سيكثر .. يريد أن يمهد للخبر.
فقال له الوالد : حسبك ، والله يا بني لو ذهبت هذه المزرعة كلها إني راضي عن الله.
كان رحمه الله في المزرعة كثيراً ما يوصيني أن أتصدق بثمر البستان ، وأذكر أنه لا يأخذ من هذه المزرعة إلا قدر ما يحتاج لاستصلاحها ، فكنتً أستعين بعد الله برجل من خيار من عرفتهم ديناً واستقامة ، حافظاً لكتاب الله ، وكان زميل الوالد في طلب العلم ؛ كان هذا الرجل يعرف الأيتام والأرامل وكان يتولى الصدقات
فلنا تولى صدقات الوالد توفي الوالد رحمه الله قبله ، فأكثر من مرة يراه في مرائي ( جمع رؤيا ؛ وهي ما يراه الإنسان أثناء نومه ) في بساتين خضراء فيها ثمار عجيبة ، وتارة في جنة ومزارع كما يقول لي ، وهذا من عاجل البشرى والحمد لله.
مما رأيته في العلم أنه كان رحمه الله لا يتكلم في مسألة إلا وهو يعلمها ، وشيء لا يعلمه لو أتى الخلق على أن يدفعوه للتكلم فيه لا يتكلم فيه بحرف واحد ؛ يقول : هذا شيء لا أعلمه .. ولا يستحي أمام الناس في العامة أو الخاصة.
وكان لا يضيع وقته ولا يرضى لأحد أن يضيع وقته في القيل والقال ، وهذا معروف حتى بين الجماعة إن خرجوا في نزهة ، فإذا وجدهم في علم ومذاكرة جلس معهم ، وإذا كان غير ذلك انتحى ناحية ، وقل أن يخرج في نزهة إلا ومعه الكتاب ، فإذا رآهم على ذكر الله جلس معهم ، وإن رأى غيبة أو نميمة نصح ، فإن لم ينتصح انسحب وجلس تحت شجرة حتى يطيب خواطرهم فيتغدى أو يجيب الوليمة ثم ينصرف رحمه الله راشداً.
كان شديداً في علمه لا يسمح لجاهل أن يستطيل في العلم ، فكان إذا جاء العقلاني يدخل عقله في النصوص السمعية إذا بذلك الوالد الأليف القريب من الناس ينقلب كالأسد ولا يجامل الكبير ولا الصغير ويقول له : اسكت ، هذا شيء لا علم لك به ولا تخض فيما لا علم لك به.
ولو كان من أعلى الناس يتكلم في الدين أو الشرع بدون بينة ولا علم يرد عليه في وجهه ولا يسمح لأحد أن يتكلم في حضرته بعلم لا يحسنه .. وهكذا لو جاء الطالب يبحث ويتنطع السؤال في الأمور الغيبية : ( كيف يحدث هذا وكيف يقع .. ) كان رحمه الله يتغير.
ومن عجائب ما كان يفعله في التفسير ، كان إذا فسر وقيل له : لم ختمت الآية بقوله تعالى : ( والله عليم حكيم ) أو غيره ؟ يمنع من هذا ويقول : ( لا يُسئل عمّا يفعل وهم يُسئلون ) ولا يمكن للناقص أن يدرك الحكمة التي ختم الله عز وجل بها الآية على هذا الوجه ، إنما يقول : من الفوائد المستفادة كذا .. نعم ، ولا نجزم بأنها الحكمة.
كان رحمه الله يحب طالب العلم الصادق ، ويفتخر به ويعطيه من وقته وجهده ، ولا يحب من طالب العلم الكسل ولا الخمول ولا السأم ولا الملالة.
كان له درس بعد الفجر في التفسير ، ودرس بعد الظهر في صحيح البخاري ، ودرس بعد المغرب في السنن والصحاح . وقد ختم رحمه الله سنن الترمذي وابن ماجه وأبي داود ، وكذلك ختم موطأ مالك ، وبعد العشاء درس في الصحيحين .. فكان طيلة هذه الأوقات يضحي ويبذل في العلم ، لكن أن تأتي وتشتكي له الضعف أو الخور من طلب العلم تنزل من عينيه.
وربما طرأت مسألة فآتيه بعد العشاء وهو مجهد فأسأله – وكان في آخر عمره له منهج معي – فما كان يفتيني وإنما يقول لي : هذه المكتبة ، اذهب وائتني بكتاب كذا ثم اقرأ من كذا إلى كذا .. فإذا قرأت يقول لي : ماذا تفهم ؟ .. كأنه يعود على أن الإنسان يتهيأ للاستفادة من الكتب مباشرة .. كان رحمه الله آتيه بالكتاب والكتابين والثلاثة والأربعة ، وهو مجهد منهك بعد العشاء واليوم كله دروس ، فآتيه بالكتاب فيقول لي : لا ، اذهب هذا ما يكفي ، اذهب إلى كتاب كذا وائتني بشرح كذا ورد كذا .. أنا بنفسي أمل وأتعب وأجد نوعاً من الثقل ومع ذلك الرجل لا يتعب ، وأقول له : انتهيت اكتفيت .. فيقول لي : لا ، حتى تنتهي " .
" فضل العلم ومتعلمه " محمد الشنقيطي
*  لقد فجعنا بحادثة تفجير راح ضحيتها الشيخ إحسان إلهي ظهير ، وراح كذلك اثنا عشر عالماً من علماء أهل السنة ، وبلغ عدد المصابين ما يربو على مائة جريح .
نبذة عن الشيخ : من أجَلَّ علماء العالم الإسلامي ، من باكستان ، معروف بالدعوة إلى الله والجهاد في سبيله والتأليف ، ذو غيرة على الدين خاصة في مجال العقيدة ، له مواقف محمودة في رد شبهات أهل البدع والملل الضالة ، وإثبات تناقضات تلك الفرق . ومن كتبه : الشيعة والقرآن ، والقاديانية.
كان منذ أيام قليلة ( كان ذلك عام 1407 هـ ) واقفاً يخطب في مؤتمر بمدينة لاهور بباكستان ، وبينما هو كذلك إذ انفجرت حوله قنبلة قد رتب لتفجيرها من قبل ، من قِبَل أعداء الدين الذين كشف أسرار مذاهبهم الباطلة مستدلاً عليهم في ذلك بمؤلفاتهم.
وفي تلك اللحظة – لحظة الانفجار – مات عدد ممن كانوا حوله ، وأصيب رحمه الله بجراحات بالغة ، فنقل فوراً من لاهور إلى مدينة الرياض ليتلقى عناية مركزة في واحد من اكبر مستشفياتها ، وما هي إلا ساعات حتى فاضت روحه إلى بارئها شهيداً إن شاء الله ، فصُلي عليه في الجامع الكبير ودفن في المدينة المنورة رحمه الله رحمة واسعة.
ذكر أحد الذين شاهدوا والده وهو يصلي في الجامع الكبير ؛ رآه بعد أن صلى رجلاً طاعناً في السن يرفع يديه ترتجفان رهبة ودعاءً ورجاءً لله ، ودموعه تتساقط على وجنتيه وهو يدعو بالأردية : الحمد لله الذي جعل موته على هذه الحالة.
" مقتل الشيخ إحسان إلهي ظهير " البريك
*  سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب حفيد إمام الدعوة ، فعل به العثمانيون فعلى ما فعلت بأحد مثله ؛ جعلوه في فوهة المدفع ثم أوقدوا هذا المدفع وجعلوا أجزاءه تتطاير وأشلاءه تتناثر .. لمَّا قام إمام الدعوة وكفَّرَهم بباطلهم وبدعهم وقبورهم وضلالهم .
" مقتل الشيخ إحسان إلهي ظهير".

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال