الحب والرومانسية وقيود المادة والاستهلاك.. قتل الورد نفسه حسداً منك وألقى دماه في وجنتيك

'قتل الورد نفسه حسداً منك وألقى دماه في وجنتيك': كثيراً ما أسأل نفسي ما الذي كان يدور في رأس هذا الشاعر عندما وصف حبيبته بهذه الكلمات؟ وهل كانت حبيبته فعلاً بهذا الجمال الذي يجعل الورد يقتل نفسه في مواجهة حسنها؟
ثم أعود وأتساءل: أمعقول أنه لم يعد يوجد في هذا الزمن الذي نعيش فيه حاضراً رقة وجمالاً في أي امرأة تستفز شعراء الحاضر فيستعينون باستعارات في أبياتهم تحاكي تلك التي كان أهل الماضي يستخدمونها؟ ألهذا يسمي كثيرون القرن الماضي بالزمن الجميل؟ أين ذهبت الرومانسية ولماذا اختفت من حياتنا؟
يحب الغربيون على طريقتهم ويتفانون في إيجاد طريقة لإسعاد الشريك ولا ينتظرون مناسبة كي يعانق الواحد شريكه تذكيراً بحبه وعطفه ورعايته، لكني في هذه المساحة غير معنية بهم، وأود فعلاً أن أتطرق لأفراد المجتمعات العربية، المجتمعات التي فرغت من مضامينها كلياً منذ أن اندثرت الطبقة الوسطى، المجتمعات التي أصبح أبناؤها أنواعاً محددة وحادة لا تجد للوسط مكاناً بينها.
عندما أتأمل في الذاهبين والغادين وأنا أحتسي قهوتي في أي مكان عام، تتراءى أمامي صور غاية في التعقيد لهم،، هناك المتفرنجون الذين يتباهون بتقليد المظاهر الغربية في كل شيء في لباسهم وتصرفاتهم وكلامهم وهؤلاء ليسوا نموذجاً، ولا يعرفون من الرومانسية إلا العشاء في مطعم مرتفع الأسعار على ضوء الشموع أو في مكان يضج بالموسيقى الصاخبة والرقص والمشروب وشلة الأصدقاء المسايرين لهذه الطريقة في الحياة. هناك المطحونون الذين يلهثون وهم يسابقون الوقت كي يستطيعوا جلب مستلزمات الحياة الضرورية من مأكل وملبس ومتطلبات مدارس أولادهم، على الأغلب هذه الفئة يعمل فيها الزوجان وينتهي يومهما وقد هدّهما التعب وتهالكت أعصابهما حتى باتت الرومانسية بالنسبة لهما نكتة. هناك شديدو التدين الذين يسير الرجل منهم وخلفه امرأة تتلحف غطاء أسود من الرأس حتى أخمص القدمين وهؤلاء ربما يكونون على الأغلب من غير المعترفين بمعنى الرومانسية. هناك رجال عرب اختاروا الزواج من فلبينيات أو أجنبيات لأن تكاليف الزواج عالية جداً من فتاة عربية عائلتها تعتبر الرومانسية لا تسمن ولا تغني من جوع.
العازبون في ما يسمى العالم العربي قصتهم قصة! بعض الشبان يتغربون لأن أوطانهم ضاقت بهم ولم تعد توفر لهم العيش الكريم، وربما يكونون هاربون من خدمة الجيش أحياناً، فيجمعون مبلغاً من المال ويطلبون من والداتهم خطبة فتيات مستورات يعشن معهم على الحلوة والمرّة فيصبحون في خانة المطحونين. وبعض الشباب يختارون الطرق الملتوية فيسقطون من حساباتهم جميع المقاييس الأخلاقية، يكذبون ويغشّون وينافقون ويصبحون وصوليين ومتسلقين على أكتاف الغير وبائعي كلام وهؤلاء لا تعنيهم الرومانسية في شيء بقدر ما يمكن أن تكون تمثيلية تساعدهم في الوصول إلى أغراضهم. وبعض الشباب مهوسون بالجنس لطول أوقات يقضونها وهم يستفزّون غرائزهم في البحث عبر المواقع الإباحية ومشاهدة الأفلام الساقطة وحتى مشاهدة محطات التلفزة الموبوءة بكل أنواع الإيحاءات الجنسية والعري المبالغ فيه، ثقافة الكبت التي تحيط بهم وببيئتهم تحولهم أحياناً إلى مسعورين، وبالطبع هذا النوع قد يمثل الرومانسية للوصول إلى غرضه الأساسي، وقد لا يضطر إلى تمثيلها لأن نساء كثيرات بتن مستعدات لعرض أجسادهن من دون مقدمات وهن يحسبن أنهن بهذا متطورات فكرياً واجتماعياً.
الفتيات أوضاعهن أسوأ من أوضاع الشبان! فهن من الذين ضل سعيهن في الحياة الدنيا، ويحسبن أنهن يحسنّ صنعا، القهر والحرمان والأفكار الخاطئة وطريقة التربية المتخلفة جعلت الكثيرات منهن فاقدات الثقة بأنفسهن، منهن من لا تفكر إلا بالمال وهي على استعداد لأن تفعل أي شيء وتتخذ أي طريق كي تصل إليه. ومنهن من تعتقد أن الشاب لن يلتفت إليها إلا إذا قلدت مغنيّات الفيديو كليب في المظهر والملبس والشكل والمشي والتصرف، هذا النوع أدخل السعادة والمال إلى حياة أطباء التجميل الذين باتت أعدادهم أكثر من الهمّ على القلب، ولم يعد بمقدور أحد أن يعرف على وجه التحديد شكل الفتاة الحقيقي'لكثرة الاختراعات التي أغرقت السوق بين نفخ الشفاه والوجنات ووشم الوجه والجسد وتكبير أو تصغير الثدي وتركيب خصلات الشعر الإضافية لإطالة الشعر وجعله يبدو غزيراً. ومنهن من كرهت هذا التصنع فاختارت النقيض ولم تعد تهتم بمظهرها واعتبرت أن دراستها أو عملها طوال الوقت هو مفتاح النجاح، ومنهن من اختارت التديّن الشديد آملة أن تجد زوجاً صالحاً يعيش بذات أسلوب حياتها.
عندما كنا نتابع أفلاماً غنائية أو غير غنائية قديمة لنجوم مشهورين من عهد عبد الحليم حافظ وفاتن حمامة وفريد الأطرش وسامية جمال وشكري سرحان وآخرين من جيلهم، كنا نرى فيهم رمز البراءة والحب الجميل وكنا كثيراً ما نبكي تأثراً بالقصة التي يمثلونها، اليوم يعتقد كثيرون أن فتيات الفيديو كليب دفعن ثمن شهرتهن من أجسادهن، وأتحدى من يعارضني في ذلك.
وعلى رغم أني لا أدعو على الإطلاق إلى العودة إلى الوراء، وأعلم أن الثورة التقنية التي طبخت الرومانسية وسلقتها وأحرقتها ضرورية ومفيدة ولا نستطيع الاستغناء عنها، ولكني أحزن كثيراً لأن أجيال القرن الحادي والعشرين لا تعلم فعلاً معنى الرومنسية، وتعيش الحياة وقد فرغ الحب الحقيقي من محتواه، وأتمنى من كل قلبي لو أن هذه الأجيال تجد طريقها فعلاً وتتوقف عن التخبط بين تراث وتقاليد تحاول شدّها إلى جذورها، وبين غرب متحضر ولكنه متوحش يحاولون تقليده بكل ما فيه حتى بالأوشام الغريبة والأقراط على الشفاه والأنف واللسان والبناطيل التي تنزلق إلى الأسفل حسب الجاذبية الأرضية فتكشف أشكال وألوان الملابس الداخلية المضحكة والغريبة والمقززة، وكأن الغرب لم ينتج إلا هذا، الغرب كذلك يستعمرنا بكل ما تعنيه الكلمة، فيا حبذا لو أن هذه الأجيال كشفت الوسيلة التي تمكن الغرب فيها من استعمارنا كي تتحرر. أجيال اليوم برأيي محبوسة ومقيدة في سجون ثقافية وفكرية واجتماعية'ومادية وعاطفية، إذا لم تحطم قيود المادة والاستهلاك التي تغرق فيها لن تتعلم الحب أو الرومانسية أو حتى كيف تعيش.
ميساء آق بيق

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال