طريق الحب إلى الخلود.. الحب تعبير عن حالة التمرد على المألوفات وتحويل أفكارنا إلى موجودات برّاقة في حياتنا

في الحب نخوض حروبا قد لا تكون قوانينها بالضرورة خاضعة لقواعد محددة بالسنتمترات والمليمترات، بقدر ما هي منقادة لإرادة فوقية، متناهية الآفـاق، لا تعترف بالحدود، تمسك بزمامها تلك العضلة الصغيرة الكبيرة: القلب.
وإذا كان المثل الإنجليزي: All is fair in love and war!
يقول فيما معناه: كل شئ مسموح به في الحب والحرب، تعبيرا عن حالة التمرد على المألوفات، والتي كثيرا ما يعيشها البشر، رغم كل الشرائع السماوية والأرضية التي حاولت جاهدة تأطير علاقة البشر في ظلالهما، فإن مجنون ليلى، وبغضّ النظر عن كل ما عاناه من ألم الفراق في قصة حبه المستحيلة، يقول بلهجة ملؤها الأمل في هذا البيت من الشعر:
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما -- يظنّان كل الظن أن لا تلاقيا
أما في ثقافتنا الشعبية فقد خلد الأدب الصومالي قصة الخبّاز علمي بوطري وفتاته هدن في سلسلة من القصائد الرائعة التي نظمها علمي، وتحولت إلى أعمال فنية في أزمنة لاحقة، امتزجت فيها لغة الشكوى والألم بنكهة الأمل.
ويبدو أن كثيرا ممن يخوضون معارك الحب مدفوعون بطاقة متجددة، تدفعهم للاستمرار حتى آخر رمق، والتشبث بأضعف مقومات الأمل، حتى وإن بدت وهما أو ضربا من الجنون في نظر من سواهم.
وسواء وقعنا في حب إنسان آخر، أو مكان بعينه، أو زمان بذاته، أو موجودات في المكان أو الزمان، فإن عاطفة الحب تلك قابلة لإختراق أكثر الحواجز متـانة، إن أحسنّـا استثمارها!
هذا ما يدفعني إلى التساؤل عن موقع الأفكار من هذه المعادلة العجيبة.
وهل للحب الذي ينشأ بين الإنسان وأفكاره علاقة بديمومتها واندثارها؟
بداية، أستشهد بمقولة المفكر القدير مالك بن نبي، رحمه الله تعالى، عن أهمية دور الأفكار في نمو المجتمعات البشرية:
"إن أهمية الأفكار في حياة مجتمع معين تتجلى في صورتين: فهي إما أن تؤثر بوصفها عوامل نهوض بالحياة الإجتماعية، وإما أن تؤثر على عكس ذالك بوصفها عوامل ممرضة تجعل النمو الإجتماعي صعبا أو مستحيلا".
وبناءا على توصيف بن نبي فإن الأفكار بشقيها: السلبي والإيجابي، تلعب دورا حيويا في صياغة مسيرة المجتمعات نهضة أو نكوصا.
ولا شك أن سمات بيئة ولادة الأفكار ونشأتها، ومدى عمق الأفكار الوليدة ووضوحها، وتناسبها مع السنن الكونية الكبرى وفطرة الإنسان السوية، وتوفر عوامل التمكين المتعددة لها، جميعها عناصر مهمة تؤثر في نمو الأفكار، وتجذرها في بيئتها الأصلية، بل وفي امتدادها خارج حدود تلك البيئة التي ظهرت فيها ابتداءا.
إلا أن مربط الفرس في عالم الأفكار  بلا منازع هو: الأفراد!
فالأفراد كانوا وما زالوا العنصر الأكثر تأثيرا في تألق الأفكار وازدهارها ورسوخها وانتشارها وتوريثها وخلودها.
ولك أن تتخيل كيف كانت رسالة الإسلام ستصلني وتصلك لو لم تتجسد تلك الرسالة السماوية، وبتلك القوة والحماس والفهم العميق والتضحيات الكبيرة، في الجيل الأول من المؤمنين: صحابة الحبيب عليه صلوات ربي وسلامه، وعليهم رضوان الله.
كانوا هناك..في حقبة تاريخية يزهو بها الزمان، في أم القرى: مكة المكرمة بخير البشرية، وبأعظم رسالات السماء، وبالسابقين الأولين من عُرب وعجم، حيث حدثت المعجزة الحضارية الكبرى، ولا زلنا نعيش تجلياتها إلى هذه الساعة.
حين تقرأ في التاريخ أن متبرما من قسوة قلب عمر بن الخطاب وشدة إعراضه عن دعوة الإسلام قال ساخرا يائسا ذات يوم: والله لا يسلم عمر حتى يسلم حمار الخطاب!
وتقرأ بعدها أن نفس الرجل الذي كان حمار أبيه أقرب منه إلى الإيمان - حسب مقولة عامر بن ربيعة -  قد رقّ قلبه واستجاب لنداء الإسلام بقدرة القادر، وصار يحمل همّ الدين بين جوانحه حتى آخر أنفاسه، وأبدع في خدمته للأمة أيما إبداع، وتفانى في القيام بمصالح رعيته، لدرجة غدت فيها سلامة الحيوانات تشغل حيزا كبيرا من تفكيره! وترك بصمات وضّاءة في تاريخ البشرية كلها، لا يمكن حتى لأكثر الناس عداءا للإسلام تجاهلها، حينها تدرك أن الرجل لم يعتنق الإسلام مسايرة أو مداهنة، بل عن اعتقاد صادق بأنه دين يعلو ولا يعلى عليه. هو الفاروق الذي استجاب الله دعاء نبيه له بالهداية، وكفاه فخرا أن الشيطان لم يسلك برفقته سبيلا!

إنه حب الأفكار!
هذا الحـب الفريد من نوعه، والذي يدفع المرء إلى الانصهار في بوتقتها قلبا وقالبا، حتى يصير المرء فكرا يمشي على الأرض، تماما كالتعبير الذي استخدمته أم المؤمنين عائشة بنت الصديق في وصف معلم البشرية، صلوات الباري عليه وسلامه، حين قالت:
"كان قرآنا يمشي"، وفي رواية أخرى: "كان خُلقه القرآن".
وحـب الأفكــار ليس أمنيات عاجزة، وحيلة ضعيفة، وعواطف راكدة، لا حظّ لها من الفعل، والمبادرة، والصمود في وجه العواصف العاتية.
فإن غدا كذالك الحال، فكبّر على الأفكار أربعا!
إن حـب الأفكار حراك داخلي قبل أن يكون خارجيا، وبقدر فاعلية ذالك الحراك في عقل وقلب الإنسان، تكون انطلاقته فعالة نحو ما يحـب.
فيهب له الغالي والنفيس، ولا يتردد في إتعاب جسده وذهنه كي تهنأ روحه المتيمة بحب أفكاره.
هكذا هو دأب المحبين دوما.. الراحة والطمأنينة والسعادة والنجاح والنصر كلها معـان مرتبطة بمدى اقترابهم مما يحبون، وإعلائهم وخدمتهم وحمايتهم لحبهم. فإن فقدوا ذالك الرابط، لن تكون لأيّة متعة أو ميزة قيمة تذكر لديهم مهما بدت عظيمة بمقاييس بني آدم.
وإذا انتقلنا إلى العصر الأندلسي الذي يمثل نموذجا مبهرا للحضارة الإسلامية في عصور انتعاشها وتألقها في سماء العلوم والعمران والمدنية، فإن أسماءا لامعة عاشت في ذالك العصر تثبت لنا أن حـب الأفكار يصنع ما يشبه المعجزات!
فشخصية مثل: ابن رشد جعل منه حب المعرفة وعشق العلم عالما بالشريعة وقاضيا وفيلسوفا وطبيبا..أو بإختصار: موسوعة علمية على هيئة إنسان!
كان العقلاء في أوروبا المظلمة آنذاك يأتون خلسة إلى الأندلس، خوفا من بطش الكنيسة، ويتتلمذون على يديه، ثم يعودون إلى بلدانهم خلسة كما أتوا خلسة، ولكن محملين في رحلة عودتهم بنافع العلوم وجليل المعارف.
فابن رشد كان كما الكثيرين من علمائنا وعباقرتنا في تلك الأزمنة المتلألئة معلما متفانيا في خدمة الإنسانية، مما ساعد أوروبا بصورة أو بأخرى على الإنتقال من عصور الجمود والظلام إلى عصور الحداثة والنهضة.
وابن رشد هو أيضا صاحب المقولة الجميلة، التي أحب الوقوف أمامها طويلا:
"إن الحكمة هي صاحبة الشريعة، والأخت الرضيعة لها، وهما المصطحبتان بالطّبع، المتحابتان بالجوهر والغريزة".
في معرض حديثه عن توافق الحكمة والشريعة، وتأكيده ألا معارضة بينهما، حتى وإن اختلقها البعض اختلاقا لا محلّ له من الإعراب.
ولولا حب الأفكار والتفاني من أجلها لما خرجت أوروبا من عصور التخلف والظلام، ولما فتحت عينيها على نهضة فلسفية وعلمية وضعتها في صدارة الأمم في العصر الحديث.
فمن غير تلك المواقف الشجاعة التي وقفها مفكروها وفلاسفتها وعلماؤها في وجه تزمت رجال الكنيسة وجبروت ملوك أوروبا، ومن غير تلك التضحيات التي قدمها أولئك الرواد الذين عشقوا فكرة الحرية بمضامينها الواسعة، لما حظي أحفادهم اليوم بكل ما نشهده من تقدم واستقرار واحترام حق الإنسان في التعبير عن رأيه، وإن كنت أدرك أن كثيرا من قيم المجتمعات الغربية الراقية تعاني من ازدواجية منفّرة إذا تعلق الأمر بالمجتمعات الأخرى، إلا أنه من الإنصاف أن يذكر المثال في إطاره، وإن كان ضيقا!
إن صحة الأفكار، وسلامتها من شتى أشكال الإنحرافات، وقوتها، وحتى قابليتها للخلود.. كل ذلك وحده ليس بكاف إذا لم يحمل تلك الأفكار أناس صادقون في حبهم لها، يعيشون حراك حبهم في أعماق قلوبهم وفي واقع حياتهم، فيتركون آثارا لا تزيدها السنين المتعاقبة إلا تأصيلا وترسيخا في ذاكرة الزمان، كابن الخطاب وابن رشد! لأنهم وقعوا في حب خالد، اسمه: حب الأفكار!
وهذا ما يفسر لنا لماذا لم ينفع المسلمين إسلامهم في عصور تخلفهم، رغم عظمة هذا الدين؟ ولماذا لم تتحقق المعجزات لنصرتنا في معارك الحياة التي دحرنا فيها أعداؤنا رغم أننا من شهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وليسوا هم؟
"الإيمان ليس بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل"، هكذا علمنا التابعي الجليل الحسن البصري. وعبارته هذه تلخص الإجابات بإيجاز محكم!
حاجتنا ماسة، أكثر من أي وقت مضى، للوقوع في حب أفكار بناءة، تزيل الغشاوة عن قلوبنا قبل عيوننا. أفكار حيوية، سليمة من العطب والعفن الذي تراكم في ساحاتنا تراكما موغلا في الإيذاء ومسرفا في الضرر!
قد تكون الأفكار الحيوية البناءة السليمة موجودة بالفعل في أذهاننا، لكن ما فائدتها إن كانت رهينة المحبسين: غرف العقل الباطن، وقيود الواقع المتأزم؟!
إن ما يزيد الأفكار العظيمة جمالا، ويمنحها خلودا، الأفراد المتفانون في حبها. فهم وحدهم من يجسدون هذه الأفكار واقعا رائعا، وهم من يترجمها للأغلبية التي تبحث عن مخرج وسط متاهات الحياة.
قد نجيد فنّ التفلسف كثيرا حول أفكار برّاقة: الوطنية، الشريعة الإسلامية، الإلتزام الأخلاقي، المصلحة العامة، العمل، التماسك الأسري، الرحمة، العدل..وغيرها، لكن إلى أي مدى نجيد فـنّ حـب أفكارنا البرّاقة، وتحويلها إلى موجودات برّاقة في حياتنا؟
دمتم في حب وسلام.
فاطمة الزهراء علي الشيخ أحمد.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال