الأبعاد الفكرية والأدبية للانتفاضة الفلسطينية.. العامل الفكري والسياسي التحريضي للتعبير

إذا كان من المبكر الحديث عن تبلور متكامل لظاهرة أدبية حديثة سميناها بـ(أدب الانتفاضة) وذلك ارتباطاً بالانتفاضة الفلسطينية الباسلة التي فجرها أبناء الشعب العربي الفلسطيني داخل الأرض المحتلة في عام 1988، وقد غدا هذا الحدث التاريخي الثوري الهام واحداً من أهم الأحداث في تاريخ نضال أمتنا العربية المعاصر، إذا كان من المبكر الحديث عن ذلك، وخاصة فيما يتعلق ببعض الأجناس الأدبية- كالرواية مثلاً- التي تحتاج إلى فترة زمنية طويلة نسبياً، أو إلى فترة تاريخية كاملة أحياناً لظهورها وولادتها، فإنه ليس من المبكر الحديث عن ظاهرة: (شعر الانتفاضة)، لأن الشعر كجنس ولون أدبي له خصوصيات أخرى تجعله أكثر وأسرع في الاستجابة للحدث -والحديث هنا على وجه العموم، لأن بعض الأعمال الشعرية، كالروايات الشعرية، والقصائد الملحمية ذات الطابع الدرامي، مستثناة من حديثنا، فهي تحتاج أيضاً لكتابتها إلى فسحة زمنية طويلة نسبياً، من هذا المنطلق يمكن الحديث عن تبلور ظاهرة شعرية جديدة في الشعر العربي الحديث، ألا وهي: (شعر الانتفاضة)، ونعني بها تلك الأعمال التي تم تكريسها لإبراز الانتفاضة الفلسطينية في الأرض المحتلة: واقع الحدث ودلالاته، جذره التاريخي، عوامل التفجير، قواه المحركة، ثم آفاقه الممكنة وتحولاته، وذلك من خلال قدرة الشاعر الرؤيوية لتَشوِّف الآتي وقراءة المستقبل القريب والبعيد.
وبدهي أننا حينما نتحدث عن هذا الحدث لا نطالب الشاعر بعكس الواقع فقط، أو حتى تغييره، بل إن ذلك يفترض قدرة الشاعر على الكشف والفتح والاستشراف من خلال تمكنه من أدواته الفنية، وامتلاكه لرؤية فلسفية عميقة، وقدرته على كتابة نص شعري إبداعي متميز يحفل بالقيم الجمالية والإبداعية التي هي في النهاية المقياس الأهم لمدى نجاح العمل الفني وسموه.
وهذا لا ينفي طبعاً دور العامل الفكري والسياسي التحريضي للتعبير عن مثل أحداث تاريخية كالانتفاضة، فكلا العاملين، يترابطان ترابطاً عضوياً جدلياً، ومن محصلة تفاعلهما وتلاحمهما ككلٍ واحد نقطف ثمرة العمل الإبداعي.
إضافة إلى هذا، فإن هذه الظاهرة الجديدة لا تشكل انقطاعاً عن شعر المقاومة الفلسطيني، بل هي امتداداً له، لكنها تمثل حالة نوعية أخرى لها خصائصها وسماتها الخاصة.
إن مايثبت ولادة هذه الظاهرة: (شعر الانتفاضة)، هو توفر نتاجات شعرية عربية كثيرة عكست هذا الموضوع وتفاعلت معه، وهذا لا يعني بأننا نمنح جواز مرور لكل هذه النتاجات، وذلك من حيث قيمتها الإبداعية، والفنية والفكرية، وكما يقال فإن -في كل كم نوع- وشعر الانتفاضة لم يخل من هذا (النوع) الشعري المتميز إبداعياً.
كما أن بعض الشعراء العرب الذين أثبتوا حضورهم الشعري على مدى العقود الأخيرة كانوا قد تفاعلوا مع هذا الحدث، وكتبوا عنه، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر: سعدي يوسف، محمود درويش، مظفر النّواب، نزار قباني، سميح القاسم، عز الدين المناصرة... الخ، علماً أننا لانضع هؤلاء الشعراء في خانة واحدة، فلكل منهم خصوصيته وتميزه، ومكانته الفنية في الشعر العربي الحديث.
السؤال المطروح هنا: هو إلى أي مدى استطاع هذا الشعر -حتى الآن- الارتقاء إلى مستوى هذا الحدث التاريخي الهام؟‍! وهل المستوى الإبداعي والفني لهذه الأعمال الشعرية استطاع أن يُوازيه في ضخامتهِ وحجمِ تأثيره؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال، نحن لا ندعي الإحاطة الشاملة بكل ما كُتب شعرياً عن الانتفاضة، ولكن ماتوفر لنا من نصوص شعرية يمكن أن يُسهم إلى حد معقول في إعطاء إجابة أولية، وسنرجئ الجواب المذكور بعد إبداء الملاحظات النقدية حول بعض النماذج الشعرية، حيث يمكن بعدها الحديث عن استنتاجات نقدية عامة كشفت عنها هذه القصائد. نزار قباني- سورية: الشاعر العربي السوري المعروف نزار قبّاني أحد الشعراء الذين كتبوا عن الانتفاضة عدة نصوص شعرية: (دكتوراه شرف في كيمياء الحجر، والغاضبون، وأطفال الحجارة). تتميز هذه القصائد الثلاث عموماً بطابعها التحريضي والتعبوي، وبقدرتها على كشف زيف غالبية الأنظمة العربية التي تاجرت بالقضية والثورة الفلسطينية من أجل ديمومتها واستمرارها، هذه الأنظمة التي اكتفت بالتطبيل والزعيق ورفع الشعارات البراقة، ولكنها مارست عملياً كل مامن شأنِه خنق الانتفاضة ووأدها خوفاً من انتقال جذوتها إلى عروشها المهترئة وحرقها.
-1-
في قصيدته العمودية، (الغاضبون) يقول نزار:
يا تلاميذُ غزة لا تبالوا
بإذاعاتنا ولا تسمعونا
اضربوا... اضربوا بكلِ قواكمِ
واحزموا أمركم ولا تسألونا
نحنُ أهل الحسابِ والجمعِ والطرحِ
فخوضوا حروبَكم واتركونا
إننا الهاربونَ من خدمةِ الجيشِ
فهاتوا حبالكم واشنقونا
جرأة في الطرح، ورؤية صحيحة للأحداث، وكشفٌ حقيقي للواقع الذي تمر به أمتنا العربية.
ولكن هل الارتباط بالواقع، والتعبير عنه، ومحاولة تغييره، يكفي للتدليل على مدى إبداعية النص الشعري والأدبي عموماً؟!
إن واحدة من أهم وظائف الشعر هي إعادة صياغة الواقع جمالياً، ويتم ذلك بامتلاك الوسائط الفنية التي هي وحدها قادرة على الارتفاع بالنص إلى مصاف السامي والخالد، إلى عالم الابتكار والدهشة.
من هنا، هل استطاع شاعرنا العربي الكبير نزار قبّاني في قصائده الثلاث المذكورة نقلنا إلى عالم الفن السحري الزاخر بالقيم الجمالية لاسيما وهو الشاعر الذي شكّل في شعرنا العربي علامة بارزة لايمكن إغفالها؟! نقول ذلك بغض النظر عن نقاط الخلاف أو الاتفاق معه سواءً كان ذلك من الناحية السياسية أو الفنية أو مع طريقتهِ الخاصة في التعامل مع الأحداث، المهم أنه صاحب القصيدة (النزارّية) ذات النكهة الخاصة والمتميزة، حيث الغنائية العذبة وسلاسة اللفظ ورشاقتهِ، ووضوح المعاني... الخ.
من الصعب إصدار حكم قيمة نقدي نهائي على قصائد نزار الجديدة، ونحن نحاول مقاربة النص نقدياً من الناحية الجمالية، بعد أن تحدثنا عن دوره التثويري والتحريضي.
فقصيدته: (دكتوراه شرف في كيمياء الحجر) أدخلت من عنوانها الشعر في عالم الكيمياء، وإن كان ذلك (كيمياء الحجر)، حيث الحجر كأداة ورمز صراعي استخدمتْه الأجيال الفلسطينية الشابة الثائرة ضد عدو غاصب مدجج بآلة الدمار الجهنمية.
القصيدة عموماً لم تشكل إضافة جديدة لمجمل نتاج نزار الشعري، وقد تراوحت بين الهبوط والعلو (النسبي) من الناحية الفنية.
 فائز العراقي
أحدث أقدم

نموذج الاتصال