يتساءل العارفون بالتسلسل الحضاري والتاريخي البشري من وقوع ما حصل في الولايات المتحدة الأميركية في أوائل الشهر المنصرم وظهور ما لم يكن في الحسبان، ومن المعلوم أن العالم يتخذ الحدث فيه شكلاً مؤثراً سلباً أو إيجاباً وبحسب الأواني المستطرفة، فإن ما وقع في الولايات المتحدة هو حدث تاريخي بامتياز أي نتيجة الانتخابات الرئاسية التي فاز فيها "رجل أسمر" للمرة الأولى في التاريخ الأميركي، من سبق له أن قرأ الأحداث التي جرت خلال السنوات الماضية من حكم طاقم جورج الجمهوري للمحافظ الجدد لابد أن يستنتج أمراً مهما جداً أن السباق يجب أن يتغير.
إن أمراً ما يجب أن يحدث ليتوقف هذا الجنون الساري ركضاً وربما عشوائياً في طول الكرة الأرضية وعرضها يجب أن تتوقف النزعة العدوانية المهيمنة على البيت الأبيض والتي جرت العالم إلى ما هو عليه اليوم من العجز المالي والفوضى والاحتلال وإغراق العالم في متاهة الأزمة الاقتصادية العاصفة وعلى خلفية أن على العالم كله أن يكون ذا لون واحد وطعم واحد وفي حالة واحدة هي الخضوع والركون لما تراه إدارة المحافظين الجدد سوى ذلك سيكون الطرف المعني - إرهابياً أو راعياً للإرهاب أو مارقاً.
وتصنيف العالم على هذا النحو واقترانه بأعمال عدوانية واستعلائية خلق الكثير والمزيد من العداء والرفض والبغض للسياسات الأميركية ربما لم يحرق علم في التاريخ، كما حرق العلم الأميركي في شوارع العالم خلال الأعوام الثمانية من طاقم جورج، فقد حاولت الإدارة - البوشية - منذ البدء فرض قالبها على العالم ووقعت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م لمنح الطاقم "الضوء الأخضر" للقيام بفتح صنابير الموت ونيران الحروب واحتلال الآخر وأمعن الطاقم في الكذب والافتراء والتخويف "اعترف جورج بوش أخيراً بهذه الأكاذيب والافتراءات" والظاهر أن الطاقم فبرك أكثر من مرة بحسب إحصائية من داخل الولايات المتحدة وإلى جانب ذلك أمعنت وأوغلت في درب الحرب حتى بعد تهاوي وسقوط الذرائع التي بموجبها برمجت للحرب وإعادة العراق إلى عصور كان العراق قد تجاوزها بكثير.
وآخر ما أعلنته اليونسكو قبل أسبوعين أن خمسة أعوام من الاحتلال أوجدت خمسة ملايين أمي في العراق بعد أن كان العراق عملياً قد احتفل أو على وشك الاحتفال بدفن الأمية فيه والسبب هو فقدان الأمن والخوف من مغادرة البيوت إلى المدارس منذ أن فرض الاحتلال نفسه وحاول أن يفرض على العراق أجندته الصهيونية.
كثيرة وأكثر من أن تحصى جرائم طاقم بوش خلال السنوات الماضية ما نستطيع تقديمه هنا ليس سوى قطرات من بحر أو هو مجرد غيض من فيض وصل إلى أن يتغذى على أحشائه بالذات، أجل إن الأزمة الاقتصادية العالمية - المالية - ما كانت عالمية بل كانت أميركية كون أميركا قائدة للرأسمالية في الذروة، كل ما حدث في العالم كان بجريرة إدارة "بوش" وخطاياها ولكن التخويف الدائم من غول "الإرهاب" ما عاد يفعل فعله في الشارع الأميركي الذي تأكد أن عليه هو أن يقوم بالتغيير.
لقد تلقف الأميركيون "الديمقراطيون في البداية الشعار "التغيير" فاكتشف فيه الأميركيون معظمهم في الأقل أنه المطلوب وأن لا أحد سواهم يقدر عليه وحتى حين حاول ماكين الابتعاد عن صورة بوش وسياسته فإنه لم يقنع أحداً، قام الأميركيون بتحول تاريخي يمكن أن يقال أنه دراماتيكي حين صوتوا لرجل أسمر ليكون رئيساً عليهم في البيت الأبيض وليقوم هو بإدارة عجلة التغيير لتكون الحادثة تاريخية بالمدلول الإيجابي.
فليس شرطاً أن يكون الحدث تاريخياً حين يكون ذا أثر إيجابي فقط ولذلك نحن من موقع إنساني صرف نشد على اليد التي تحاول أن تحفر مجرى آخر أفضل وأكثر عدلاً وأكثر إنسانية وتعقلاً في التاريخ الإنساني تاريخ من غير استعلاء وحروب وإذلال واحتلال واغتصاب وفرض عقوبات وضغوط.
وما يهمنا نحن العرب والعالم الثالث ليس ذلك الرئيس الأميركي الذي يذهب أو هذا الذي يأتي.. بل يهمنا موقفه من الشعوب النامية وقضايانا وموقفه من الإنسانية عموماً، فلقد عودتنا الإدارات الأميركية السابقة على أسطوانة مكررة تذهب وتأتي مع كل انتخابات في بلادها وهي المغالاة في تقديرها للصهيونية ووقوفها معها وكأن الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة هو قضية أميركية داخلية، كما قال بعض السياسيين وأؤلي المعرفة، ما يهمنا من الرئيس المنتخب الجديد ليس لونه أو أصله الإفريقي ولا الآمال المعقودة على مجيئه إلى سدة الرئاسة بل توجهاته وعمله وعلاقته بالإنسانية عموماً وبأمتنا العربية بشكل خاص.
بيد أن المقالات في تحميل الدنيا مشكلاتنا وتقاعسنا هو ما يأتي في الأولوية، فليس مطلوباً من أوباما أن يقدم لنا كل شيء بل مطلوب عنا أن نكون تجاهه أصحاب موقف وقضية كي يسهل عليه وعلى العالم فهمنا والوقوف إلى جانب قضيتنا العادلة، فمن يفرط في حقوقه ويتساهل في قضية العرب ويجعل من نفسه مطية لكل عدو يجب ألا يطلب من الرئيس الجديد أن يعيد إلينا حقوقنا التي نسيناها وأن يقاتل نيابة عنا من أجل القضية العربية التي صرنا نختلق لعدونا ألف عذر وعذر لابتلاعها...
إن قضية العرب الأولى هي في موقفهم ودفاعهم عن كرامتهم في تكاتفهم بدل تفرقهم في وحدة موقفهم عوضاً عن تشتتهم وتمزقهم في خضوعهم والاتحاد ضد كل عربي يقول للأعداء- لا- ولذا ليس مطلوباً من الرئيس المنتخب أن يضطلع بواجباتنا جميعاً ونحن غافلون نائمون نغمض عيوننا عن جراحنا في مشرق أمتنا ومغربها وننسى بكل "أريحيتنا" ذلك الدم العربي الذي يسيل في أرض فلسطين، للعالم ونحن أيضاً حق التفاؤل بالرئيس المنتخب الجديد نتوسم فيه وقفة موضوعية ورؤية إنسانية لكل ما يجري في العالم ولكل ما اقترفته يد "الراحل بوش" من جرائم تخجل الإنسانية من ذكرها وتذكرها.
لكن الخطوة الحقيقية هي لنا نحن ولموقفنا الذي يجعل العالم يحترمنا، نحن مع عالم يتجه إلى العدالة والسلام، عالم متعدد القوى والأقطاب يسود فيه التوازن محكوم بدون ظلم والاحترام التام للشعوب وخياراتها وإراداتها، عالم ينصف فيه الضعيف والمظلوم من الجبابرة واللئام . عالم يؤكد أن الإنسان في قيمه العليا أعظم وأرق وأبهن من لون البشرة، ففي العمق كل البشر سواء في اللحم والدم والعصب والعظم والفوارق هي حكر على المشاعر والسلوكيات العامة أو الخاصة انسجاما مع الانتماء والصدق أو الكذب والتمسك بتلابيب الإنسانية في سعيها إلى الحرية والعدل والأمان..
عبد الرحمن حسن رياله
التسميات
أمريكا