الجليس الصالح وكيف نختاره؟ بين بائع المسك ونافخ الكير

جليسك الصالح يشعر بشعورك ويعتني بشئونك ويهتم بأمورك يفرح لفرحك ويحزن لحزنك ويسر بسرورك، ويحب لك ما يحب لنفسه ويكره لك ما يكره لنفسه، وينصح لك في مشهدك ومغيبك، يأمرك بالخير وينهاك عن الشر ويسمعك العلم النافع والقول الصادق والحكمة البالغة ويحثك على العمل الصالح المثمر ويذكرك نعم الله عليك لكي تشكرها ويعرفك عيوب نفسك لكي تجتنبها ويشغلك عما لا يعنيك.
وهكذا استاذك الصالح يجهد نفسه في تعليمك وتفهيمك وإصلاحك وتقويمك يطالبك بالعمل وينتظر من ظاهرك ثمرة ما يغرس في باطنك إذا غفلت ذكرك، وإذا أهملت أو مللت بشرك وأنذرك وليس في الجلساء من ينفعك خيره ويضرك شره كالأستاذ الذي يعد لك أبا ثانيا وكما يكون هو تكون أنت والجليس الصالح يسد خلتك ويغفر زلتك ويقيل عثرتك ويستر عورتك وإذا اتجهت إلى الخير حثك عليه ورغبك فيه وبشرك بعاقبة المتقين وأجر العاملين وقام فيه معك وكان لك عونًا عليه.
وإذا تكلمت بسوء أو فعلت قبيحا زجرك عنه ومنعك منه وحال بينك وبين ما تريد، جليسك الصالح لا يمل قربك ولا ينساك على البعد، وإن حصل لك خير هنأك وإن أصابتك مصيبة عزاك يسرك إذا حضرت بحديثه ويرضيك بأفعاله ويحضر بك مجالس العلم وحلق الذكر وبيوت العبادة ويزين لك الطاعة بالصلاة والصيام والإنفاق في سبيل الله وكف الأذى واحتمال المشقة وحسن الجوار وجميل المعاشرة.
ويقبح لك المعصية ويذكرك ما يعود به الفساد عليك من الويل والشقاء في عاجل الأمر وآجله، وما زال ينفعك ويرفعك ويزجرك ويودعك حتى يكون كبائع المسك وأنت المشتري ولصلاحه ونصحه لا يبيع عليك إلا طيبًا ولا يعطيك إلا جيدًا وإن أبيت الشراء طيبك وصب عليك العطر فلا تمر بشارع ولا تسلك طريقًا إلا وعبق منك الطيب وملأت به الأنوف وأولئك هم القوم لا يشقى بهم جليسهم تنزل عليهم الرحمة فيشاركهم فيها ويهم بالسوء فلا يقوله ولا يستطيع فعله إما مخافة من الله وإما حياء من الناس.
فالخير الذي تصيبه من جليسك الصالح أبلغ وأفضل من المسك الأذفر فإنه إما أن يعلمك ما ينفعك في دينك ودنياك أو يهدي لك نصيحة أو يحذرك من الإقامة على ما يضرك فيحثك على طاعة الله وبر الوالدين وصلة الأرحام ويدعوك إلى مكارم الأخلاق ومحاسنها بقوله وفعله وحاله فإن الإنسان مجبول على الاقتداء بصاحبه وجليسه والطباع والأرواح جنود مجندة يقود بعضها بعضًا إلى الخير أو إلى ضده وفي الحديث: «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل»([1]) وفي الحكمة المشهورة: «لا تسأل عن المرء واسأل عن قرينه».
وأقل ما تستفيده من الجليس الصالح أن تنكف بسببه عن السيئات والمعاصي رعاية للصحبة ومنافسة في الخير وترفعًا عن الشر وفوائد الأصحاب الصالحين لا تعد ولا تحصى وحسب المرء أن يعتبر بقرينة وأن يكون على دين خليله، وأما قرين السوء فهو بضد ذلك كله فإنك إن لم تشاركه إساءته أخذت بنصيب وافر من الرضى بما يصنع والسكوت على شر تخاف منه وتحذره وتحتاط لحفظ كرامتك من أن يمزقها أو أن يسمعك عن نفسك أو عن الآخرين ما لا تحب فهو كنافخ الكير وأنت جليسه القريب منه يحرق بدنك وثيابك ويملأ أنفك بالروائح الكريهة وأنت وإياه في الإثم سواء ومن أعان على معصية ولو بشطر كلمة فهو كالفاعل وكل كلام لا يحل فهو من اللغو الذي مدح الله تاركيه بقوله: ]وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ[ [القصص: 55] وقد يكون جليس السوء قويًّا لا تستطيع مقاومته ولا الإنكار عليه فخير لك الابتعاد عنه لئلا تقع في معصيتين السكوت على الباطل وموافقة أهله.
وفي مجالس الشر تقع في الغيبة والنميمة والكذب واللعن وكل كلام فاحش ويقع اللهو والطرب وممالاة الفساق ومجاراتهم على الإسراف في الإنفاق والخوض في الباطل ]وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ *[ [الأنعام: 68].
وإن أعظم مثل يصور لنا خطر جليس السوء ما حصل لأبي طالب عم النبي r عند وفاته جاء إليه النبي r حين احتضاره وهو يلفظ آخر أنفاسه فقال له رغبة في إسلامه: يا عم قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله.
فقال أبو جهل وكان جالسًا عنده: أترغب عن ملة عبد المطلب، فرسول الله r يلقنه الإسلام وأبو جهل يلقنه الكفر إلى أن مات وهو يقول: هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول: لا إله إلا الله ([2]) بسبب جليس السوء فمصاحبة الأشرار ومجالستهم مضرة من جميع الوجوه على من صاحبهم وشر على من خالطهم فكم هلك بسببهم أقوام؟ وكم قادوا أصحابهم في المهالك؟ وقد قال الله تعالى مخبرًا عن عاقبة الظالمين وتمنيهم سلوك طريق المؤمنين وندمهم على مصاحبة الضالين: ]وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً *[ [الفرقان: 27-29] وقال النبي r: «لا تصحب إلا مؤمنا»([3]) ويقول الشاعر:
إن القرين بالقرين يقتدي
واختر من الأصحاب كل مرشد
تزيد في القلب السقيم السقا
وصحبة الأشرار داء وعمى
فاجتنبن قرناء السوء
فإن تبعت سنة النبي
وقال r «مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحًا طيبًا ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة»([4]) صدق رسول الله r فما أروعه من مثل يصور لنا حقيقة الجليس وما ينتج عنه من نفع أو ضر وخير أو شر وطيب أو خبث وصدق الله العظيم إذ يقول: ]قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ *[ [المائدة: 100] اللهم وفقنا للجلساء الصالحين والأصدقاء الناصحين وزينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين آمين يا رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
([1]) رواه أبو داود والترمذي وحسنه.
([2]) الحديث في قصة وفاة أبي طالب مخرج في الصحيحين.
([3]) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم ورمز السيوطي لصحته.
([4]) رواه البخاري ومسلم.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال