أن يشتاق المرء إلى وطنه، ويحن إلى أهله وعشيرته وإلى زملائه ورفقاء الصبا الذين ترعرع فيهم، وقضى بينهم أجمل اللحظات وأسعد الأيام، وأن يرغب في العودة إلى مسقط رأسه فهذا أمر طبيعي لا غبار عليه، وبالتالي لا يختلف عليه اثنان .. لكن أن يحن المرء إلى الغربة، ويتحين الفرص للاغتراب مجدداً، ومفارقة الأحبة والأصدقاء، ومغادرة تلك الربوة الخضراء التي عاش فيها جنباً إلى جنب مع الأقران وأبناء الوطن فقد يكون في ذلك شيء من الغرابة على الرغم من أن العجب يبطل إذا ما عرف السبب .. وبالأخص عندما يكون ذلك واقعاً ملموساً في حياة واحد منا..
يعود بي شريط الذكريات في أحايين كثيرة وخصوصاً عندما أكون خالي الوفاض، بعيد عن ضجيج العمل وصخب الحائضين إلى تلك الأيام الخاليات التي قضيتها في العاصمة السودانية "الخرطوم" وتحديداً في فضاء جامعة إفريقيا العالمية.. حيث كانت جامعة لكل ما تحمله الكلمة من معنى .. كانت تضم شباباً وشيوخاً من مختلف الألوان والأجناس والأعمال.. تلك الأيام التي كانت على الرغم من مرارتها تتميز بطابع خاص لا يمكن أن يشعر به إلا المجرب.. فقد قال الإمام الشافعي يمدح الاغتراب ولو لبعض الوقت:
ما في المقام لذي عقل وذي أدب
من راحة فدع الأوطان واغترب
سافر تجد عوضاً عمن تفارقه
وانصب فإن لذيذ العيش في النصب
وإذا كان الحق أحق أن يقال فإن شوقي إلى تلك البقعة مازال قائماً.. وما انفك الحلم يراودني للعودة إليها ولو بعد حين إما لمواصلة الدراسات العليا في إحدى جامعاتها العريقة وإما لزيارة الأصدقاء الأوفياء الذين تعلمت منهم معنى الصداقة الحقيقية التي لا تهدأ أبداً مهما طال البعاد، وحالت بيننا الظروف والأسباب.. كان أحدهم يقول لي دائماً:
"أحفظ الصديق ولو في الحريق" وبعد مضي سنوات عدة على فراقهم مزال التواصل قائماً بيننا وعبر الانترنت غالباً. وإن كنت أجد نفسي قد فقدت مناخها النقي ومرحها الأصيل..
اشتقت إلى المقاعد الدراسية واستماع المحاضرات من أهل الذكر والمعارف.. كما أحن إلى القراءة والكتابة.. كيف لا وقد كنت مغرماً بقراءة القصص المختلف أنواعها من عاطفية وبوليسية واجتماعية... الخ.. كنت أتجول في شوارع هذا العالم الواسع.. وانتقل من مدينة إلى مدينة.. وأطير كالعصفور من غصن إلى غصن آخر.. أتنسم روائح الزهور الزكية.. وأستظل بظلال تلك الأشخاص الباسقة.. ولن أكون مبالغاً - عزيزي القارئ - إذا ما قلت إنني كنت أقرأ في اليوم الواحد أكثر من ثلاثمائة صفحة على الأقل.. ولربما أتممت الكتاب كله في وجه النهار أحياناً.. كما كنت أعشق الكتابة عن مختلف المواضيع والمجالات.. واستماع الأشرطة الدينية وبالأخص خطب الشيخ عبد الحميد كشك رحمة الله تعالى عليه. أما الآن فالأعمال أكثر من الأوقات.. يمر بي يوم دون أن أطالع صفحة واحدة.. أو أتصفح ولو نشرة صغيرة.. بل ربما انقضى شهر بأكمله دون أن أتمكن من قراءة كتاب واحد على الرغم من تراكم الكتب في البيت.. أما الأشرطة فما زالت تعاني الهجران.. وقد علاها الغبار في إحدى زوايا البيت.. وصارت تقاسي الفراق بعد الوصال..
أشتاق إلى تلك اللحظات التاريخية حيث كنا نزور الولايات السودانية ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً خصوصاً في أثناء الإجازات الصيفية.. نطوف بها فترة من الزمن.. نتنفس الصعداء.. ونستنشق الهواء العليل.. نخفف عن أنفسنا شيئاً من شدائد الغربة وأهوالها.. وكان شعارنا في تلك الفترة قول الشاعر:
وما من شدة إلا سيأتي.. لها من بعد شدتها رخاء.
اشتقت إلى تلك الفترة التي يصف فيها البعض بالعصيبة.. فقد كان ذهني خالياً من الهواجس والهموم وغموم المستقبل إلا قليلاً.. كان تفكيري كله منصباً على الجد والمثابرة والتحصيل الدراسي لتحقيق أعلى الدرجات.. لم تكن لدي معضلة تؤرقني.. أو مشكلة تواجهني بين الفينة والأخرى، كما هو الحال اليوم.. فقد استولت جيوش الهواجس على رأسي حتى لم يعد يستوعب المزيد.. فسبحان مغير الأحوال والحمد لله على كل حال.. ولا يعني ذلك - عزيزي القارئ - أنني أفضل الحياة العلمية على العملية.. أو أنني أكره المسئوليات والتكاليف التي تصاحب المرحلة الراهنة.. فقد قضينا الشطر الأول من عمرنا وتحملنا الصعاب في سبيل الوصول إلى بر الأمان، والقيام بأداء هذه المهام الجسام.. وكما قال المتنبي:
وإذا كانت النفوس كباراً .. تعبت في مرادها الأجسام.
أشتاق ولي أن أشتاق إلى كرم السودانيين وتواصفهم وصفاء سريرتهم.. ومجاملاتهم الدائمة.. وسعيهم الدؤوب إلى بلوغ المرام وتطلعاتهم نحو آفاق أرحب وأوسع في تعلم المزيد من دروس الحياة.. هكذا ألفتهم طيلة هذه السنوات .. كان تكريمهم الضيوف يفوق الوصف والخيال.. فقد كان شعارهم:
يا ضيفنا لو جئتنا لوجدتنا .. نحن الضيوف وأنت رب المنزل.
وأخيراً فإن هذا الشعور الذي ينتابني وذلك الإحساس الذي يعتريني قد لا يكون موجوداً لدى العديد من الزملاء الذين عشت معهم في هذه المنطقة، فكل وجهة نظره وفلسفته في الحياة...
التسميات
من الحياة