تطالعنا وكالات الأنباء العالمية من حين لآخر عن إحدى الظواهر التي أقلقت علماء البيئة والباحثين في علوم البحار.هذه الظاهرة هي عبارة عن نفوق أعداد كبيرة من الحيتان على شواطئ المحيط الهادي والأطلسي في حالة سميت وقتها ب (ظاهرة الانتحار الجماعي للحيتان.
وقد تكررت هذه الظاهرة تكررت أكثر من مرة على عقدين أو ثلاثة عقود مضت، و بزيادة مضطردة.
هذا الحدث جعل الحكومات المعنية تستنفر كوادرها العلمية ومؤسساتها البحثية المتخصصة للبحث والتقصي ودراسة هذه الظاهرة وكنهها، وبعد أبحاث مستفيضة انتهت إلى محصلة واحدة كانت القاسم المشترك لمجموع الهيئات والمعاهد في هذا المجال في أكثر من بلد وخلاصته:
أن التلوث البيئي وما خلفه من تآكل لطبقة الأوزون والذي سبب بدوره ما يعرف بظاهرة الاحتباس الحراري.
الاحتباس الحراري هو الدافع الرئيسي لهذه الظاهرة
إن جملة الاختلال البيئي والحراري أثر سلباً على الأحياء الدقيقة التي هي قاعدة الهرم الغذائي للحياة البحرية، وهذا بدوره أضر بسلة الغذاء البحرية مما انعكس سلباً على قوت هذه الأحياء في البحار والمحيطات.
ببساطة موجزة: إن اختلال الأمن الغذائي وعمليات الصيد غير المنظمة والوحشية، وحركة الملاحة وضجيجها، ورمي النفايات العضوية والكيماوية على ضفاف البحار والمحيطات، بالإضافة إلى أن أعماق المحيطات والجزر الغير مأهولة أصبحت معامل للأبحاث النووية والأسلحة غير التقليدية.ومجموع هذه الأنشطة والممارسات جعلت هذه الحيتان العملاقة تعلن السخط على هذه الأوضاع المتردية والمزرية فتقرر أن تكون لها الكلمة الأخيرة، وكان هذا الانتحار الجماعي على شواطئ العالم.هذه نبذة عن مسلسل المأساة التي تعيشها الأحياء البحرية، ولكني أكاد أجزم أن نفس المسلسل التراجيدي يتكرر، ولكن هذه المرة على اليابسة ومع الجنس البشري، ونفس وكالات الأنباء العالمية تطالعنا وبصورة متكررة بنشرات مزعجة ومرعبة عن مراكب الموت المحملة بقطيع من البشر في رحلة للخلاص من عذابات الجنوب إلى جنات الشمال (حسب ظنهم).إن أشرعة الموت التي تنطلق من سواحل الشرق الإفريقي باتجاه جنوب الجزيرة العربية وتوابيت الهلاك التي تنطلق من دول جنوب البحر المتوسط، إلى شماله، والمغامرات التي تنطلق من الساحل الغربي الإفريقي، إلى الساحل الشرقي بلاد العام سام (الولايات المتحدة الأمريكية) كلها أشكال متعددة، للهجرة الغير شرعية، أو بلفظ آخر ظاهرة الانتحار الجماعي لبني البشر).إن معظم هذه الرحلات، تنتهي نهاية مأساوية أو قاسية ومع ذلك، فإن معدل هذه المغامرات في أطراد وتصاعد في العقدين الآخرين ناهيك عن قوافل السيارات التي تعبر الصحراء الجنوبية من المملكة العربية السعودية والحدود الإرترية السودانية مروراً بالصحراء الكبرى إلى الجماهيرية الليبية ، وتونس.
السؤال الذي يفرض نفسه هنا، هو، ما هي الدوافع التي دفعت هذا القطيع من البشر أن إلى ركوب أمواج البحر المتلاطمة، وأمواج الكثبان الرملية في الصحاري والقفاز؟إن نظرة فاحصة، على أعداد من هذا الشباب المنكوب تستنتج أنهم ليسوا فقط من بلدان تصنف على أنها ذات نظم فاشلة انهار هيكلها الإداري والسياسي، والاقتصادي والاجتماعي وتعطلت كافة مؤسساتها العامة والخاصة بل نجد فئة من الشباب هاجروا من بلدان ذات هياكل قائمة ومؤسسات حية وفاعلة، وهي بلدان لها حضورها الإقليمي والعالمي، في منظمة الأمم المتحدة.
في اعتقادي، إن انهيار هيكل الدولة، أشبه بجفاف المياه في البحار والمحيطات وهذا لاشك فيه يكتب النهاية الأكيدة للحياة فيها وهذا ما نراه يعانيه مواطني الدول المصنفة على أنها أنظمة فاشلة وليس هذا معرض حديثي.أما فئة المهاجرين الذين ينتمون إلى "النظم الفاعلة" فهم أشبه بهذه الحيتان التي تنتحر على ضفاف الشواطئ، والواضح هنا أن الحيتان لا تعاني من نقص المياه أو شحها، ناهيك عن جفافها في المحيطات ولكنها مع ذلك تفضل الموت على الحياة لعلها تبحث عن حياة أخرى، وبصورة مغايرة.
في نظري أن ظاهرة الانتحار الجماعي عند أبناء النظم الفاعلة لها أسبابها ومعطياتها التي غذت هذا النهج المنحرف الذي يبخس قيمة الحياة في اعتقاد أيضا ان نهج الإقصاء بشكل مباشر أو غير مباشر في المظلة السياسية أو الحراك السياسي والاقتصادي والاجتماعي وجعلهم يعيشون على هامش هذه المنظومة وهي أشد وطأة من معتقلات التعذيب ومحاكم التفتيش فرق الموت.
إن عامل (الإقصاء) والتهميش للأفراد والجماعات يولد الإحساس الدائم بالقلق وفقدان الأمن واختلال التوازن النفسي فترى واحد منهم تتقاذفه الوساوس وتداعبه الشكوك والهواجس فيصبح حبيس الأفكار الخبيثة والاستنتاجات السقيمة حتى تتراكم عليه تتمكن منه فيجثوا على ركبتيه ويفقد زمام أمره.ثم يقرر هذا (المنكوب) الهروب من أصفاد هذه الهواجس المريضة والمخيفة فيخيل إليه أن هناك فردوسا على الضفة الأخرى فيعد العدة ويلف كفه على جسده المنهك ويركب نعشه الذي يحمله إلى مثواه الأخير. إن الإقصاء عن السياسية والممارسة هي لعنة على بني البشر وهي النواة الأم لكل المصائب والإمراض التي تصاب بها الكيانات الحية (الفاعلة.
أما في عام البحار والمحيطات فإن جشع الإنسان وانتهاجه سياسية (الأنا) وإقصاء غيره من المخلوقات الحية التي تستوطن الكرة الأرضية قد أضرت بمصالح معايش الكائنات البحرية والبرية وهددت سلامة مستعمراتهم ومجتمعاتهم فكان الرد السريع المغضب من قطيع الحيتان التي تشكو إلى ربها أنانية وظلم الإنسان.
إن أمماً أخرى تعيش بيننا في هذه البسيطة ترسل لنا الإشارات تلو الإشارات، أن: "يأيها الإنسان ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء" إنني أدعو من هنا كل الأنظمة الفاعلة إلى أن تحترم وتراعي حرمة حياة الإنسان وقدسية إنسانيته وكرامته وما يترتب عليها من تبعات ومسئوليات وتتكفل بحقوقه المادية والأدبية، وعدم المساس بحرية واستقلال إرادته طالما أنه لا يخرق القوانين والأنظمة التي تتفق عليها جماعات الأمم.
وتمنح للأفراد والأقليات الفرص المتكافئة والحقوق المتوازنة ويكون معيار التفاضل على قدر الكفاءة والمواهب والإنتاج هذا مع الأخذ في الحسبان دمج العنصر النسائي في هذه المظلة ودعمها وتشجيعها لتتبوأ مقعدها، هذا بالإضافة إلى رعاية ذوي الاحتياجات الخاصة واللقط والأيتام والأرامل والمسنين والفئات المطحونة، إن على الدول والحكومات أن تضمد الجراح الاجتماعية وتصحح الاعوجاج السياسي وتتبنى التوزيع العادل للثروات والخيرات لشعوبها ويجب التنويه هنا أن الشعوب ذات الأطياف المتعددة لغوياً وثقافياً ودينياً وعرقياً، وأن تحترم هذه الخصوصيات وتستغل هذه الألوان الزاهية في رسم لوحة الفسيفساء الاجتماعي بما يخدم ويصب في دعم وتوثيق عرى التعايش والسلم الأهلي جدير بالذكر هنا أن جمهورية جيبوتي في مجال السلم الأهلي وثقافة التعايش المترسخة في ضمير أفرادها تعتبر نموذجاً مشرفاً ومثالاً يحتذى به كمجتمع متعدد الثقافات والأعراق.
بل إن هذا التعدد العرقي والثقافي كان صمام الأمان وطوق النجاة وهي في وسط إقليم يعتبر من أكثر مناطق التوتر والصراعات في إفريقيا والعالم.
التسميات
من الحياة