الحب والمال .. الحب أبقى من زيف المال الزائل

كانت العلاقة القائمة بين حسناء المدينة "حليمة" ذات السنوات العشرين وبين المحروس "حسين" الذي لم يكن يكبرها سوى بثلاث سنوات، علاقة حب بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، فقد أحبها "حسين"  منذ نعومة أطفاره حباً عنيفاً جارفاً لا تحده الحدود أو تحجزه الحواجز.
ولم تكن الحسناء "حليمة" بالبليدة التي لا تفهم ما يجول في صدر هذا الفتى المتيم الذي "لا يهنأ عيشاً، ولا يقر له قرار، فبادلته الحب بحب والمشاعر المشاعر الصادقة والعواطف الجياشة بما يماثلها.
وصار فؤادها الجنون بين يدي هذا الفارس المغوار في دنيا الغرام.
ووجدت نفسها غارقة في هوى هذا الحبيب بين عشية وضحاها حتى راح طيف يطاردها أنى ذهبت وحيثما صارت.
وكانت "حليمة" تجد في هذه المعاناة لذة لم تجدها منذ أن تفتحت عيناها على المعالم.. كيف لا وقد أصبح الحب لها بمثابة وسادة مريحة تلجأ إليها كلما داهمتها جيوش الفراغ أو هواجس الوحدة.
وهكذا توثقت عرى المحبة بين قلبي الحبيبين فتعاهدا على الوفاء والزواج..
كانت الفتاة المولهة "حليمة" تنتمي إلى أسرة فقيرة تعاني مرارة الحاجة والعوز.. والدها حارس في أحدى المؤسسات الخاصة.. وما يتقاضاه في الشهر لا يكفي لتأمين نفقات العائلة.. فضلاً عن المستلزمات المدرسية لابنته الوحيدة.. أما الوالدة فكانت تقوم بتدبير شؤون المنزل، لا تخرج من بيتها إلا لماماً لاقتناء ما تحتاجه من الأواني المنزلية وغيرها.. وفيما كان الزوج يشتكي من قلة اليد وسوء الأحوال كانت الزوجة قانعة بقسمة الله للأسرة.. لا تسأل الناس الحافاً. يحسبها الجاهل غنية من التعفف.. أما الصغيرة "حليمة" فكانت تعيش في حالة مد وجزر.. مرة تقف في صف والدها لتلعن الظروف القاسية التي ألمت بالأسرة منذ عهد سحيق.. وأخرى تميل إلى جانب الوالدة فتحمل صعوبة الحياة وترضى بما كتب الله للأسرة من رزق معلوم.. وربما حاولت عدم الخضوع للواقع المرير لكنها سرعان ما تفيق من غفلتها وغيبوبتها بعد لحظات .. لتتأسى بالإمام الشافعي حين يقول:
لو كانت الدنيا تنال بفطنة..
وفضل وعقل نلت أعلى المراتب
...ولكنما الأرزاق حظ وقسمة
بفضل مليك لا بحيلة طالب
هذا ما كان من أمر أسرة "حليمة" وأما ما كان من شأن أسرة المحروس "محمود" فلم تكن حالتها بأفضل من حالة أسرة فتاة أحلامه.. فالطيور في غالب الأحوال على أشكالها تقع.. وهكذا تآلف القلبان المتيمان قبل اتحاد الجسدين.. فناما على أسرة الورود والزهور قريري العينين دون أن يعبرا أدنى اهتمام لما تأتي به الأيام القادمان وما تخفيه بين ثناياها من مفاجآت.. بل نسيا أو تناسيا حوادث الدنيا وعاديات الأيام...
يا نائم الليل مسروراً بأوله  .... إن الحوادث قد تأتين أسماراً
كان "مراد" قد قضى شطراً كبيراً من عمره في الخارج وتنقل بين الكثير من المدن الأوروبية وعمل لسنوات طويلة في بعض المؤسسات الخاصة والعامة حتى جمع مبالغ كبيرة ما جعله من أثرياء البلاد.. لكنه اليوم يفتقر إلى تلك الفتوة والحيوية والنشاط.. حين كان شاباً في ربيع عمره.. عاد اليوم إلى مسقط رأسه ليتم مشوار حياته ويهندس لمستقبله ويدخل القفص الذهبي "الزواج" حتى يخلف وراءه من الأبناء من يخلد ذكره عبر الأجيال إنه في حاجة إلى امرأة متزنة وهادئة تنسيه كل الهموم والغموم التي أقضت مضجعه طيلة السنوات الماضية من عمره لكنه كان يعشق الجمال المرصع بالأخلاق الفاضلة والسجايا في المرتبة الأولى في تلك المواصفات لدى بعض الرجال وما دونه يهون .. بعث "مراد الرسل والوفود حتى يعثروا على ضالته وزوجته المستقبلية .. فلم تستغرق رحلة البحث سوى أيام معدودة حتى وقع الخيار على صاحبة العينين الساحرتين "حليمة" فهي فعلاً جوهرة ثمينة ... لم يتردد لكنه وجدد الطرق المؤدية إلى قلب الحسناء مسدودة.
وبعد تفكير طويل اهتدى إلى الحل المنشود.. ذهب إلى والدة الحسناء "حليمة طالباً يد عزيزته، متقهداً بتوفير الحياة الكريمة والمعيشة الراضية لها وللعائلة كلها.. ولأن الوالد.. يغفر الله له - لم يكن يدري ما يدور وراء الأبواب المغلقة أعلن موافقته بعد أن تأكد بأن "مراد" يمكن أن يسعد ابنته مادياً على الأقل ورأى أنه قد آن الأوان لتودع الأسرة سنوات الفقر والحاجة ولتبدأ حياة جديدة تتوفر فيها كافة مقومات الحياة السعيدة.. وما هي أيام قليلة حتى بدأت مراسم الزواج وانتقلت "حليمة" إلى عش الزوجية والدموع تنهمر من عينيها الجميلتين .. جلست في داخل قصر مشيد تندب حظها التعس وتبكي بكاءً مراً.. تلعن المال ورجال المال الذين لا يعرفون عن المشاعر الإنسانية شيئاً ولا يجيدون إلا لغة المال.. بالأمس القريب كانت تلعن الفقر وقلة اليد.. واليوم ها هي تلعن المال.. فسبحان مغير الأحوال ومقسم الأرزاق...
أحدث أقدم

نموذج الاتصال