أحياناً نتساءل.. هل اختفى حقاً ذلك الإصرار العجيب علي تبجيل الكتب والاحتفاظ بها واقتناء المزيد منها.. ذلك الانهماك المحموم في شرائها وتكديسها في بيوتنا؟
هل تضاءل الامل حقاً في استعادة متعة القراءة الجادة إلى سابق عهدها لتلك الايام التي كنا لا نغفو فيها الا والكتاب يغطي وجوهنا الحالمة والغارقة في شعاب اقماره ومداراته ريثما يسقط جانباً من تلقاء نفسه؟
لقد اكتشف الذين هرعوا علي صوت اطلاق الرصاص.. قبل عشرات الاعوام.. همنغواي.. بعد انتحاره، مضرجاً بدمائه.. والعديد من الكتب مفتوحة الصفحات، موزعة علي سريره.. ومكتبه ومقعده.. دون ان يكمل قراءتها!
بل ان اناتول فرانس يروي هذه الحادثة.. لقد عرفت رجلاً كان قد حكم علي جده بالاعدام بالمقصلة في عهد الثورة الفرنسية.. وكان يقرأ كتاباً عن سوفوكليس.. بانتظار تنفيذ الحكم.. وعندما جاء دوره ليصعد.. قام بثني الصفحة التي كان يقرأها وكأنه سوف يستمر في القراءة.. وصعد!
فهل نشهد اليوم.. بوادر نزوح جماعي من كوكب القراءة؟!
لقد كان الكثير من الناس يملكون الكتب.. ويخصصون لها رفوفاً او مكتبات خاصة في بيوتهم.. وينظرون لها بزهو واحترام.. اليوم من النادر ان تري اثراً للمكتبات الصغيرة.. أو حتي ذلك الترحيب.. فقد تكون البيوت محتوية علي كل ما وصل اليه ترف العصر وافرازاته من تلفزيون وفيديو وراديو واطباق لاقطة وبلي ستيشن وحاسوب .. لكنك من النادر ان تري كتباً الا من قبيل الوجاهة لا اكثر..!
قد تخصص ميزانية لا يستهان بها للمدارس والجامعات والمستلزمات الدراسية الاخري ولكن معظم هذه المبالغ تمنح لامور (تدريسية) لا (تثقيفية).. ان الجمهور لم يعد يواظب علي القراءة كما كان في السابق.. بعد ان طغي التأثير الاعلامي وساد بشكل واضح وملموس طغيان وسائل الاعلام المنتشرة انتشاراً مذهلاً.. فقد طغت المشاهدة علي القراءة وتولد لدينا الميل للتلقي فقط.. وأصبح المشاهد السلبي عبارة عن (سبورة) يسجل عليها الاخرون افكارهم بعد ان اختفي القارئ المتفاعل والناقد والمفكر والمتأمل والقادر علي المحاججة والنقد.. هذه الظاهرة افرزت جيلاً مغايراً يتسم بالسطحية والامية الادبية اذا جاز التعبير.. وهذا النزوح الجماعي من مواكبة القراءة قابلته هجرة واسعة نحو الفضاء الاعلامي المتمثل بالقنوات والفضائيات.. حتي اصبح السؤال عن مكتبة.. اية مكتبة عامة في الشارع.. مدعاة للسخرية والاستغراب..
ومع ان هناك من يتحدث عن الزوال التدريجي للكتب وانتفاء الحاجة لها والزعم ان وسائل الاتصال الحديثة ستدفن الكتب عاجلاً ام آجلاً لصالح شيء اكثر ديناميكية لن يتطلب من الانسان الوقت الطويل الذي تستغرقه القراءة! فلا يمكن بأي حال من الاحوال.. تصور مظاهر اختفاء هذا الكم الهائل من الكتب وانعدام الحاجة اليها او الاهتمام بها لسبب وجيه.. هو انها تمثل "ذاكرة البشرية" جمعاء.. فهل في وسع احد ان يتنازل عن ذاكراته..؟ انها مجرد اسئلة.. ليس الا؟
ليث فائز الايوبي
التسميات
وظائف القراءة