لم يعبر قبله أحد .. الذراعان مشرعتان في انتظار لحظة الاحتضان لطفله الحبيب

اقترب مني حتى اكتوى خدي بلفح أنفاسه، اغرورقت عيناه بالدمع وهو يقول:‏
"كان  قائد أول كتيبة تصدت لهجوم القوات المعادية وضع نفسه أمام الجميع وهو يقول هيا  يا رجال. تقدموا وكنا نقاتل بشراسة وبسالة دفعت العدو إلي التقهقر بعد أن قادنا إلي مواقعهم الحصينة   وعبرنا معه إلي الضفة الاخري  تعرضنا لنيران مدفعية كثيفة  كانت تنهال علينا من السفينة الحربية والراجمات   كل ذلك لم يكن ليثنه  عن تسطير ملحمة (دوميرا) الأولي في هذه المواجهة.  
 أتفهم؟ نسينا في خضم الأحداث النصر الذي حققه ذلك البطل  أنت
مسئول أمام التاريخ  بكشف هوية هذا الضابط المغوار ونشر كل التفاصيل التي سأحكيها لك  ، عدني بذكر كل شيء".
ارتعشت شفتاي، فنطقتا: "أعدك". نكّست رأسي متظاهراً بتحريك الشاي، فتكونت في الكوب دوائر حمراء كبرت، وكبرت، ثم ماتت...
حين خرج من بيته في ذلك اليوم وهو متوجه إلي الجبهات الأمامية في شمال البلاد ، تكاثفت الجهات في عينيه، فامتلأت بالمدى والرؤى.  
تهيب  هائل تغلغل في أعصابه وجوارحه، في هذا الليل . فسار على ضوء وهيجه مشبعاً بمشية شمّاء غرّاء؛.‏
ماذا يهم؟؟ هو في الغاية من البهاء والزهو، تحت جنح صديقه الليل، الذي صار يسطع أمامه، هذه المرّة كضوء النهار يحمل أمانة الشهداء وراية الدفاع عن تراب الوطن 
انتبه إلى ذاته بعد قليل. بل التفت إلى فوق. كوكب في العالي. كان يناديه بغمزاتِ شعاع. تذكّر:
 هو لـه نجم من بين نجوم هذه السماء. هكذا كانت تقول  لـه جَدّته  وأمه  أيضاً. حين كان صغيراً. يعدُّ بيادر النجوم، ويتحمّلُ مسؤوليّة الثآليل، التي ستنبت في أصابعه. إذن نجمته هاهي ذي تخفق لـه: أن هلمّ إليّ، أيها الرجل المكتسي  ببزتك المشجية بالنجمات المتلألئة ووقفتك الشامخة  سر نحوي خفيفاً. أو طر كطائر، سأحضنك برحيقي المعسجد،اشتقت إليك، من حولي الثريا والفرقدان والميزان....‏
الكل في عالم النجوم بانتظارك.. هيّا أسرع‏
يا أيّها السامعون.. يا أيّها المشاهدون. اشهدوا أنّ هذا الرجل المتوثب  قد ولد مع أبجديّات هذه الأرض من صخور وتراب وغابات. عشقها وعشقته بنسك.  
اشهدوا وانظروا إليه كيف يتهادى فوقها. كما تتبختر قصيدة على جسد اللغة. أو كما ينهمر تاريخ من شرفات الذاكرة...‏
يشدّ خصره بحزام محاط بقنابل يدوية   اشهدوا كيف يستعجل خطاه بتوقٍ  ويحلّق فوق معارج الديار، ويرفرف بهالاته غيمة قادمة من ينابيع المطر.  تلثم اليتامى والأيامى والثكالى.. ها هما يداه جناحان. وغبارٌ وغلالاتُ دخّان. ‏
تراه يتعالى في كلّ الأرجاء. ليؤكد أنّ هذا هو زمن النجم، الذي ينقلب إلى شهيد
- تمدّد هيكلها الضّامر ا على سرير يتلقفه برفقٍ شديد، النوم أصبح يقاوم رغبتها تغشاها أحزان  كاسحة، تسافر طاغية مخترقة الأنسجة تستقبلها على مضض أعصاب ساخطة ثائرة، متعبة أنهكتها  مقاومة الفاجعة  أحاسيس عارمة لا يمكن أن تحدد لها شرحاً ولا وصفاً، فتسلمها لفوضى التلقي، ثم تنطلق أجوبتها أنّات تترنّح مثقلة بحمل الجراح، تتصاعد وتتنازل، تتنازل وتتصاعد... تسبح في فراغ نظراتها التائهة، ثم تهوي بحدّة على تنهيدة عائمة تبحث عن قشّة حبور.... تتمسّك التنهيدة المتقطعة بأحبال النسيان.... لتغرق متلاشية في الصمت....‏   تغرق في الصّمت، وماذا بعد الصّمت وماذا قبله؟‏
لا تقدر أن تموقع نفسها بين "القبل والبعد"، فهي تحسّ بأنّ موجة عملاقة جبّت ما بداخلها كلّه، بعد الذي حدث يسكنها هاجس جديد غريب، فبعد مقاومتها لآلام جراحها، تفاجئها أسئلة طفلها : متي يعود أبي من العمل ؟ ما ما هذه الليلة لا تتركيني أنام .. أريد أنتظر بابا....
وبدأ يواصل حكاية تلك الليلة الغادرة : رأيته كان الوجه متحجر، تشنجات تحت الجلد مباشرة، كان الأزرق قد بدأ يكون هالة، دائرية من المحجرين ممتدة صعوداً باتجاه طرفي الحاجبين. ، كان الجبين أملس ناعماً، لم تتكون فيه أي تجعيدة بعد.. الأذنان مشرئبتان كأنهما على وشك التقاط صوت الهمسة المنتظرة من الزوجة الحبيبة والأم الحنون . الذراعان مشرعتان في انتظار لحظة الاحتضان لطفله الحبيب  رغبة مؤودة  امتدت على مساحة زمن متصاعدة فيه الأمنيات للعودة إلي . البيت و الأسرة، جمال أخاذ للشاطئ الذي اشتهى أن يُمرغ أنفه في نقاء رماله حين تلمع على صفحاته نجوم سماء الوطن الأبهى. إنه الحلم عينان مفتوحتان، حنان يود أن يتفجر. خفية.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال